الرئيسية / سلسلة من شعار أهل الحديث / الدر الثمين في وجوب توقير العلماء وطلبة العلم في الدين
الدر الثمين في وجوب توقير العلماء وطلبة العلم في الدين
الدر الثمين
في
وجوب توقير العلماء وطلبة العلم في الدين
تأليف:
العلامة المحدث الفقيه
فوزي بن عبد الله بن محمد الحميدي الأثري
حفظه الله ورعاه وجعل الجنة مثواه
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
مقدمة الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
}يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{ )آل عمران: 102).
}يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا{ )النساء: 1).
} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71){ )الأحزاب: 70-71).
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن الله تعالى امتن على هذه الآمة بالعلماء الربانيين وطلاب العلم المتمكنين... فكانت نعمتهم أعظم النعم على الأمة وأجلها، وهم أكرم الخلق عند الله وأرفعهم قدرا وأفضلهم على وجه الأرض بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام... فالرسل هم القدوة، وهم الأساس في الدعوة والعلم والفضل... ويليهم العلماء ثم طلاب العلم... فكل من كان أعلم بالله كان أقرب الناس من الرسل.
وإن من تمام هذه النعمة توريث الله تعالى العلماء وطلاب العلم علوم الرسل والأنبياء... فكانوا هم ورثتهم القائمين في أمتهم بمهمة البلاغ ونشر العلم والتعليم... وبيان الحلال والحرام... وتوجيه الناس إلى الخير وإرشادهم إلى الحق وتوصيلهم للهدى... فأخلاقهم عظيمة وصفاتهم حميدة وأعمالهم جليلة خلفاء الرسل... فآثارهم عظيمة شكرها الله لهم... فالعلم من علامات الخير والفلاح... ومن علامات التوفيق... فهم يحملون العلم في صدورهم ويدعون إليه الناس وأقومهم بحقه... وهم أعرف الناس بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ والقيام بحقهما.. فكان لهم الاعتبار والمكانة في الشريعة المطهرة... فواجب على الأمة طاعتهم في طاعة الله ورسوله.. وموالاتهم واحترامهم وتوقيرهم ومحبتهم ومعاونتهم على البر والتقوى...
وعلى هذا جرى سلف الأمة وأئمة المسلمين في كل بلد وزمان... فعرفوا لهم أقدارهم ومنازلهم ومكانتهم، ويتبين ذلك من أقوالهم وأفعالهم.
ثم خلف خلوف قل فيها العلم وأهله... وقل اعتبار الناس للعلماء وطلبة العلم... فلم ينزلوهم منازلهم ولم يرفعوا لهم رأسا، وأساءوا بهم الظن واستطالوا عليهم... فكانت عاقبة أمرهم خسرا وأضلوا } فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون{.. وما أدري إن كانت قلوب هؤلاء لا تنفعهم الموعظة ولا تفيدهم الذكرى... ألم تزجرهم النصوص المرهبة والمرعبة عن فعلهم هذا الشنيع... اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك...
وإن حقا على القارئ هذه الورقات أن يتفطن لملاحظة مهمة.. وهي أن العلماء وطلبة العلم الذين نقصدهم هنا، هم العلماء وطلبة العلم الربانيين وطلاب العلم المعتبرون الربانيون في الأمة، أما أهل الأهواء والضلالة والانحراف فهم غير داخلين هنا.. إذ هؤلاء القوم حقيقيون أن يعدوا في طوائف العوام فهم متعالمون وليسوا بعلماء، وطلاب العلم في الدين.
قال الشيخ صالح الفوزان في ((وجوب التثبيت في الأخبار واحترام العلماء)) (ص50): (إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها.. وهؤلاء قراء وليسوا فقهاء فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء إطلاق في غير محله والعبرة بالحقائق لا بالألقاب فكثير ممن يجيدون الكلام ويستميل العوام وهو غير فقيه، والذي يكشف هؤلاء أنه عندما تحصل نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها فإن الخطباء والمتحمسين تتقاصر أفهامهم وعند ذلك يأتي دور العلماء. فلننتبه لذلك ونعطي علماءنا حقهم ونعرف قدرهم وفضلهم وننزل كلا منزلته اللائقة به...). اهـ
وانطلاقا من مبدأ الاهتمام بهذا الأمر وددت أن أضع لإخواني المسلمين هذا الكتاب الصغير ليستفيدوا منه وسميته ((الدر الثمين في وجوب توقير العلماء وطلبة العلم في الدين)).
وليعلم أن الأدلة النقلية كثيرة في هذا الموضوع وحيث اقتصرت على بعض الأدلة طلبا للاقتصار والمراعاة لجعل الكتاب أسهل للقراءة والفهم.
هذا وأسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق المسلمين القائمين على شئون المسلمين لما فيه خير دينهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
أبو عبد الرحمن فوزي بن عبد الله الأثري
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ذكر الدليل
على
مكانة العلماء وطلبة العلم ووجوب موالاتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم والتعاون معهم على البر والتقوى والحذر من قدحهم وغيبتهم والطعن فيهم
لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية للعلماء منزلة ليست لغيرهم من الناس، وجعلت لهم مقاما رفيعا، وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله عز وجل ([1]).
كما اعتبرت الشريعة لطلبة العلم أيضا منزلة ليست لغيرهم من الناس، وإن كانوا دون العلماء، وجعلت لهم فضلا وشرفا ومقاما رفيعا أيضا، وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله تعالى فهم ورثة العلماء فوجب موالاتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم ([2]).
وإليك الدليل:
(1) قال تعالى:} يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{([3]).
قلت: فأمر الله تعالى بطاعتهم، وطاعتهم ما تستلزم محبتهم واحترامهم وتقديرهم.
قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (ج28 ص170): (أولو الأمر: أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس). اهـ
وقال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في ((العلم)) (ص17): (إن أهل العلم هم أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: } يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{ فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام والعلماء وطلبة العلم). اهـ
(2)، وقال تعالى:} فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون{([4]).
قلت: أن الله أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل وهذا يستلزم عظم مكانتهم وتزكيتهم وعدالتهم.
قال السعدي في ((تفسيره)) (ج4 ص206): (وعموم هذه الآية، فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه: العلم بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة). اهـ
(3)، وقال تعالى: }شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18){([5]).
فقد أشهد الله عز وجل أهل العلم على أجل مشهود وهو توحيده، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء، وأن في ضمنه هذا تزكيتهم وتعديلهم، وأن العلماء في جملتهم عدول ([6]).
وقال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج5 ص323): (فقرن اسم العلماء باسم الملائكة، كما قرن اسم الملائكة باسمه، وكما وجب الفضل للملائكة بما أكرمهم به، فكذلك يجب الفضل للعلماء بما أكرمهم به من مثله). اهـ
وقال القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (ج4 ص41): (في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء).اهـ
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص219): (استشهد سبحانه بأولى العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده... وهذا يدل على فضل العلم وأهله...)([7]). اهــ.
قال مالك بن أنس في قوله: }نرفع درجات من نشاء{ قال: (بالعلم).
أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص248) بإسناد صحيح.
قال تعالى:} يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{ ([8]).
وقال تعالى:} قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون{ ([9]).
قلت: فنفى الله تعالى التسوية بين العلماء وطلبة العلم وبين غيرهم، وفي هذا الدلالة على منزلة ومكانة أهل العلم من العلماء وطلبة العلم.
قال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص221): (أنه سبحانه نفى التسوية بين أهله وبين غيرهم... فقال تعالى: }قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون{ وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم). اهـ
وقال تعالى:} وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43){([10]).
فالأدلة لا يعرفها إلا أهل الفهم والإتقان بكتاب الله وسنة رسوله.
قال السعدي في ((تفسيره)) (ج6 ص89): (وما يعقلها: أي يفهمها وتدبرها وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب (إلا العالمون) أي أهل العلم الحقيقي، الذين وصل العلم إلى قلوبهم، وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحث على تدبرها وتعقل، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من يعقلها ليس من العالمين). اهـ
وقال تعالى:} إنما يخشى الله من عباده العلماء{([11]).
فأهل العلم من العلماء وطلبة العلم –هم أهل خشية الله بل خصهم الله من بين الناس بذلك وحصر ذلك فيهم.
قال ابن كثير في ((تفسيره)) (ج3 ص553): (إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر). اهـ
وقال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج5 ص323): (فأبان أن خشيته إنما تكون بالعلم). اهـ
قلت: وإنما كان أهل العلم أهل خشية الله لعلمهم بالله تعالى.
فالعلم النافع يورث الخشية، ويكون سببا في زيادة التقوى ([12])، والتقرب إلى الله عز وجل، وهي الغاية التي خلق الله العباد من أجلها ([13]).
وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
حديث حسن
أخرجه أبو داود في ((سننه)) (ج4 ص57)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج1 ص398)، وفي ((الرحلة)) (ص77)، وفي ((الفقيه والمتفقه)) (ج1 ص17)، وفي ((التلخيص)) (ج2 ص734)، والترمذي في ((سننه)) (ج4 ص153)، وابن عبد البر في ((الجامع)) (ج1 ص34)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج1 ص81)، وابن أبي شيبة في ((المسند)) (ج1 ص55)، وأحمد في ((المسند)) (ج5 ص196)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (ج2 ص225)، والدارمي في ((السنن)) (ج1 ص183)، والفسوي في ((المعرفة)) (ج3 ص504)، والآجري في ((أخلاق العلماء)) (ص21)، والسمرقندي في ((تنبيه الغافلين)) (ص665)، وابن شاهين في ((الترغيب)) (ص227)، والكرخي في ((الأربعين)) (ص76)، والبخاري في ((التاريخ الكبير)) (ج2 ص377)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (ج1 ص429)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج1 ص275)، والبيهقي في ((المدخل)) (ص250)، وفي ((شعب الإيمان)) (ج5 ص327)، وفي ((الآداب)) (ص525)، وفي ((الأربعين الصغرى)) (ص12)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص151)، وابن قانع في ((معجم الصحابة)) (ج2 ص387)، والبزار في ((المسند9) (ج1 ص83) من طرق عن أبي الدرداء به.
وإسناده حسن.
قال الشيخ صالح السدلان في ((الضرورة إلى العلم الشرعي)) (ص31): (فالحديث يحمل بشائر عظيمة لطالب العم، ويبين ما للعلماء من القدر الجليل، والمقام النبيل، وهذا يدل على فضل العلم، وسمو مرتبته وعظيم مكانته).اهـ
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص261): (وقوله: (وإن العلماء ورثة الأنبياء)، هذا من أعظم المناقب لأهل العلم، فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته. إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده –ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم. وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم، فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء. وفيه –أيضا –إرشاد للأمة بطاعتهم، واحترامهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وإجلالهم، فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة، وخلفاؤهم فيهم.
وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين، وبغضهم مناف للدين، كما هو ثابت لموروثهم. وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم. قال علي رضي الله عنه: محبة العلماء دين يدان الله به. وقال ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل: (من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة....)، وورثة الأنبياء سادات أولياء الله عز وجل.
وفيه تنبيه للعلماء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ، من الصبر، والاحتمال، ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان، والرفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق، وبذل ما يمكن من النصيحة لهم، فإنه بذلك يحصل لهم نصيبهم من هذا الميراث العظيم قدره، الجليل خطره.
وفيه –أيضا –تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يربي الوالد ولده، فيربونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصاله الغذاء إليه، فإن أرواح البشر بالنسبة إلى الأنبياءوالرسل كالأطفال بالنسبة إلى آبائهم، بل دون هذه النسبة بكثير، ولهذا كل روح لم يربها الرسل لم تفلح ولم تصلح لصالحه، كما قيل:
ومن لا يربيه الرسول ويسقه لبانا له قد در من ثدي قدسه
فذاك لقيط ما له نسبة الولا ولا يتعدى طور أبناء جنسه
وقوله: (وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم)، هذا من كمال الأنبياء وعظم نصحهم للأمم). اهـ
قال ابن رجب: (يعني أنهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته، والنهي عن معاصي الله والذود عن دين الله)([14]).
وقال الخطابي في ((معالم السنن)) (ج5 ص243): (قوله: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، ويأول على وجوه، أحدها: أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيما لحقه وتوقيرا لعلمه). اهـ
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص255): (والطريق التي يسلكها إلى الجنة جزاء على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصلة إلى رضا ربه.
ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعا وتوقيرا وأكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه وهو يدل على المحبة والتعظيم فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضع أجنحتها له لأنه طالب لما به حياة العالم ونجاته، ففيه شبه من الملائكة، وبينه وبينهم تناسب، فإن الملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى، ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم أنهم يستغفرون لمسيئهم، ويثنون على مؤمنيهم، ويعينونهم على أعدائهم من الشياطين، ويحرصون على مصالح العبد أضعاف حرصه على مصلحة نفسه، بل يريدون لهم من خير الدنيا والآخرة ما لا يريد العبد ولا يخطر له ببال.. فأي نصح للعباد مثل هذا إلا نصح الأنبياء، فإذا طلب العبد العلم فقد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله، فلذلك تحبه الملائكة وتعظمه، حتى تضع أجنحتها له رضا ومحبة وتعظيما).اهـ
وقال ابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص291): (في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا، هم الذين يعلمون علم النبي ﷺ دون غيره من سائر العلوم ألا تراه يقول (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا ﷺ سنته، فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة الأنبياء).اهـ
وعن زر بن حبيش قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك؟ قلت: جئت أبتغي العلم، قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ما من خارج يخرج من بيته يطلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع).
حديث حسن
أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (ج1 ص95)، وفي ((السنن الصغرى)) (ج1 ص98)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (ج3 ص502)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج1 ص82)، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص239)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (ج1 ص205)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج1 ص177)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (ج1 ص276)، وفي ((المدخل)) (ص252)، والحميدي في ((المسند)) (ج2 ص388)، والدارمي في ((السنن)) (ج1 ص101)، والشافعي في ((الأم)) (ج1 ص34)، والطيالسي في ((المسند)) (ص160)، وابن قانع في ((معجم الصحابة)) (ج2 ص11)، وابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج1 ص97)، والدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص196)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص286)، وابن عساكر في ((الأربعين)) (ص100)، وأبو بكر الشافعي في ((الغيلانيات)) (ص213)، والخطيب في ((الرحلة في طلب الحديث)) (ص83)، وفي ((الأسماء المبهمة)) (ص144)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (ج1 ص82)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (ج8 ص67)، والآجري في ((أخلاق العلماء)) (ص38)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم99 (ج1 ص32) من طرق عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش به.
قلت: وهذا سنده حسن.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وقال ابن عساكر: هذا حديث حسن.
وقال ابن حجر في ((الفتح)) (ج1 ص209): (وحديث صفوان وإن كان صحيحا، لكنه ليس على شرط البخاري). اهـ.
وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح حسن ثابت محفوظ مرفوع.
قال السجري في ((الرسالة)) (ص220): (فالمتبع للأثر يجب تقدمه وإكرامه، وإن كان صغير السن غير نسيب، والمخالف له يلزم اجتنابه وإن كان مسنا شريفا).اهـ
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص257): (فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له –يعني طالب العلم –وحبها إياه، وحياطته وحفظه، فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفا وفضلا).اهـ
قلت: فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر، وطلبة العلم ورثة العلماء، وهم المفضلون بعد العلماء على سائر البشر.
وإذا كان العلم الذي أوصى الله به إلى الأنبياء قد ورثه العلماء، فإن العلماء أيضا ورثوا شيئا من الاعتبار الشرعي للأنبياء، فكذلك طلبة العلم ورثوا شيئا من الاعتبار الشرعي للعلماء، فالأنبياء مبلغون عن الله، والعلماء مبلغون عن الأنبياء، وطلبة العلم مبلغون عن العلماء.
قلت: وهذا ما يتضح في الدليل الآتي:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمعكم منكم).
حديث حسن
أخرجه أبو داود في ((سننه)) (ج4 ص68)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص95)، وفي ((معرفة علوم الحديث)) (ص27)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج1 ص43)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (ج1 ص250)، وفي ((شعب الإيمان)) (ج5 ص369)، وفي ((دلائل النبوة)) (ج6 ص539)، وابن أبي أسامة في ((المسند)) (ص34 –البغية)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (ج8 ص120)، والهروي في ((ذم الكلام)) (ج5 ص196)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (ج1 ص8)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص219)، وأحمد في ((المسند)) (ج1 ص321)، والخطيب في ((شرف أصحاب الحديث)) (ص81)، وابن الحطاب في ((مشيخته)) (ص90)، وابن جماعة في ((مشيخته)) (ج1 ص386)، والرامهرمزي في ((المحدث الفاصل)) (ص207)، والقاضي عياض في ((الإلماع)) (ص10)، وابن خير في ((فهرسته)) (ص10 و13) من طرق عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
قلت: وهذا سنده حسن.
قال العلاني في ((جامع التحصيل)) (ص52): (عبد الله بن عبد الله هذا قال فيه النسائي ليس به بأس، ووثقه ابن حبان ولم يضعفه أحد، والحديث حسن). اهـ
والحديث صححه الألباني في ((الصحيحة)) (ج4 ص389).
* وقوله (تسمعون ويسمع منكم) خبر بمعنى الأمر أي لتسمعوا مني الحديث وتبلغوه عني، وليسمعه من بعدي منكم، ويسمع ممن يسمع منكم أي ويسمع الغير من الذي يسمع منكم حديثي، وكذا من بعدهم وهلم جرا، وبذلك يظهر العلم وينتشر ويحصل التبليغ وهو الميثاق المأخوذ على العلماء ([15]).
قلت: وهذا أداء للأمانة وإبلاغ للرسالة. فطلبة العلم (طلبة الحديث) أوصى بهم النبي ﷺ خيرا أي توقيرهم واحترامهم ومحبتهم، وما ذاك إلا لشرفهم وفضلهم ورفعتهم عند الله وفي دين الله.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه كان –إذا رأى الشباب –يعني طلبة العلم –قال (مرحبا بوصية رسول الله ﷺ).
أثر حسن
أخرجه الترمذي في ((سننه)) (ج5 ص30)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج10 ص90)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج5 ص370)، وفي ((المدخل)) (ص369)، والخطيب في ((شرف أصحاب الحديث)) (ص22)، وفي ((الجامع)) (ج1 ص35)، وابن عدي في ((الكامل)) (ج5 ص1733)، وابن خير في ((فهرسته)) (ص8)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (ج11 ص252)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج1 ص286)، وابن الحطاب في ((مشيخته)) (ص91-92)، والنسفي في ((علماء سمرقند)) (ص521)، وأبو الشيخ في ((طبقات المحدثين)) (ج3 ص282)، والرامهرمزي في ((المحدث الفاصل)) (ص147)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (ج1 ص12)، والعلائي في ((بغية الملتمس)) (ص26) من طرق عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري به.
قلت: وهذا سنده فيه أبو هارون وهو عمارة بن جوين العبدي وهو متروك كما في ((التقريب)) لابن حجر (ص711)؛ لكنه لم ينفرد به.
تابعه عليه أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي البصري وهو ثقة كما في التقريب لابن حجر (ص971).
عن أبي سعيد الخدري أنه قال: (مرحبا بوصية رسول الله ﷺ كان رسول الله ﷺ يوصينا بكم).
أخرجه الحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص77) من طريق سعيد بن سليمان الواسطي حدثنا عباد بن العوام عن الجريري عن أبي نضرة به.
قلت: وهذا سنده حسن.
ومن هذا الوجه: أخرجه الرامهرمزي في ((المحدث الفاصل)) (ص176)، والعلاني في ((بغية الملتمس)) (ص28)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (ج1 ص12)، وتمام في ((الفوائد)) (ج1 ص150).
وقال الحاكم: هذا حديث ثابت لاتفاق الشيخين على الاحتجاج بسعيد بن سليمان وعبادة بن العوام والجريري ثم احتجاج مسلم بحديث أبي نضرة.
قلت: وأقره الذهبي على أن الحديث لا علة له. وقال العلائي: إسناده لا بأس به. وقواه الألباني في ((الصحيحة)) (ج1 ص565).
وللحديث طرق أخرى بأسانيد ضعيفة.
أخرجها الرامهرمزي في ((المحدث الفاصل)) (ص175)، وابن وهب في ((المسند)) (ق/167/ط)، والخطيب في ((الجامع)) (ص35)، وأبو أحمد الحاكم في ((الأسامي والكنى)) (ج4 ص286).
وله شاهد:
أخرجه الدارمي في ((السنن)) (ج1 ص99) من طريق إسماعيل بن أبان ثنا يعقوب عن عامر بن إبراهيم قال: (كان أبو الدرداء إذا رأى طلبة العلم قال مرحبا بطلبة العلم وكان يقول إن رسول الله ﷺ أوصى بكم).
وإسناده حسن.
قال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص287): (أن النبي ﷺ أوصى بطلبة العلم خيرا وما ذاك إلا لفضل مطلوبهم وشرفه).اهـ
فأحيا الله طالب العلم، بالعلم، فهو حي مستنير فالنور يكشف له عن حقائق الأشياء، ويبين له مراتبها، والحياة تصحح له صفاته، فتسدد قوله وأعماله، فهو يمشي بين الناس بالنور والحياة.
قال تعالى:} أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها{([16]).
قلت: كان ميتا بالجهل، فإن الجهل موت، والعلم نور الحياة.
قال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص232): (كان ميتا بالجهل قلبه، فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نورا يمشي به في الناس). اهـ
فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس، والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس..
فطلاب العلم غراس في رياض العلماء، فينبغي على أهل العلم أن يستوصوا بهم خيرا، وينظروا إليهم بعين المحبة، ويحيطوهم بالحرص والرعاية حتى يستقيم عودهم ولا تميل قناتهم –كما أوصى رسول الله ﷺ بطلاب الحديث خيرا.
قال الخطيب في ((الجامع)) (ج1 ص343): باب توقير المحدث طلبة العلم وأخذه نفسه بحسن الاحتمال لهم والحلم).
وذكر تحت هذا الباب فصلا، نذكر رؤوسها:
1) إكرامه المشايخ وأهل المعرفة.
2) تعظيم الأشراف وذوي الأنساب.
3) تعظيمه من كان رأسا في طائفته وكبيرا عند أهل نحلته.
4) إكرامه الغرباء من الطلبة وتقريبهم.
5) إستقباله لهم بالترحيب.
6) تواضعه لهم.
7) تحسين خلقه معهم.
8) الرفق بمن جفا طبعه منهم.
وقال الخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ج2 ص139) تحت عنوان (تنبيه الفقيه على مراتب أصحابه): (يستحب للفقيه أن ينبه على مراتب أصحابه في العلم، ويذكر فضلهم ويبين مقاديرهم ليفزع الناس إليهم في النوازل بعده إليهم، ويأخذوا عنهم).اهـ
قلت: فالعلم تربية، وأن الربانيين من العلماء وطلبة العلم هم المربون حقا، وما كبكب الأمة الحزبية في هاوية الذل والجهل إلا تنكبها لصراط العلماء وطلبة العلم وطعنهم فيهم... والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له إلى الجنة طريقا).
أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (ج3 ص2074)، وأبو داود في ((سننه)) (ج5 ص235)، والترمذي في ((سننه)) (ج5 ص195)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج1 ص82)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص252)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص284)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج9 ص85)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج1 ص272)، والشجري في ((الأمالي)) (ج2 ص215)، وزهير بن حرب في ((العلم)) (ص11)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص89)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج1 ص13)، وفي ((التمهيد)) (ج5 ص337)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج5 ص324)، وفي ((المدخل)) (ص249)، وفي ((الآداب)) (ص522)، وفي ((الزهد الكبير)) (ص291)، وفي ((الأربعين الصغرى)) (ص135)، والآجري في ((حملة القرآن)) (ص22)، وفي ((أخلاق العلماء)) (ص35)، والخطيب في تاريخ بغداد (ج12 ص114)، والطيالسي في ((المسند)) (ص319)، والدارمي في ((السنن)) (ج1 ص99)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (ج2 ص11)، وابن المستوفي في ((تاريخ إربل)) (ج1 ص256) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة به.
قلت: وفي الحديث دليل على فضل العلم وشرفه... فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبيل الله عز وجل.
قال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص291): (وهذا أشرف علم على الإطلاق...). اهـ
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص274): (وقد تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل، فكما سلك طريقا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك، سلك الله به طريقا يحصل له ذلك). اهـ
قلت: وهذا يدل على مكانة ومنزلة طالب العلم في الدين.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه سمع النبي ﷺ يقول: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (ج6 ص217)، و(ج13 ص293)، ومسلم في ((صحيحه)) (ج2 ص719)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج1 ص152)، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص101)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج1 ص284)، والبيهقي في ((المدخل)) (ص252)، وفي ((الأسماء والصفات)) (ج1 ص252)، والدارمي في ((السنن)) (ج1 ص73 و74)، والآجري في ((الأربعين)) (ص12)، وفي ((أخلاق العلماء)) (ص25 و26)، والضياء المقدسي في ((فضائل الأعمال)) (ص560)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ج1 ص7)، وفي ((الموضح)) (ج2 ص337)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج1 ص7)، وفي ((التمهيد)) (ج1 ص20)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (ج2 ص278)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (ج19 ص329)، وفي ((مسند الشاميين)) (ج2 ص124)، وفي (((المعجم الأوسط)) (ج2 ص259)، وابن الجوزي في ((الحدائق)) (ج1 ص515)، وفي ((مشيخته)) (ص174)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (ج10 ص366)، وفي ((أخبار أصبهان)) (ج1 ص345)، ومالك في ((الموطأ)) (ج2 ص90 –رواية يحيى)، و (ج2 ص72 –رواية أبي مصعب)، وعبد بن حميد في ((المنتخب)) (ص157)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (ج1 ص225)، وابن بطة في ((إبطال الحيل)) (ص12)، وبحشل في ((تاريخ واسط)) (ص112)، وأبو يعلى في ((المسند)) (ج13 ص371)، وتمام في ((مسند المقلين)) (ص32)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج1 ص80)، وابن عدي في ((الكامل)) (ج3 ص1005)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج9 ص5)، والدولابي في ((الكنى والأسماء)) (ج1 ص150) من عدة طرق عن معاوية به.
قال الآجري في ((أخلاق العلماء)) (ص26): (فلما أراد الله تعالى بهم خيرا فقههم في الدين، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سراجا للعباد ومنارا للبلاد).اهـ.
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص246): (وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيرا، كما أن من أراد به خيرا فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيرا إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيرا فإن الفقه حينئذ يكون شرطا لإرادة الخير، وعلى الأول يكون موجبا).اهـ.
وإذا كان الله عز وجل قد أراد بهم الخير ففقههم في الدين وعلمهم التأويل، وخصهم بذلك، فقد خصوا أيضا بلزوم طاعتهم ووجوب الائتمار بأمرهم ([17]).
قلت: ولولا العلم لفسد عمل الناس.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز في ((الدعوة إلى الله)) (ص32): (أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع).اهـ.
وقال في (ص50): (أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه } قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة{ فلابد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقل على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلابد من البصيرة وهي العلم). اهـ.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ((القول المفيد)) (ج1 ص127): (فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محمودا وليست طريقته طريقة الرسول ﷺ، لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح).اهـ.
وقال الشيخ صالح الفوزان في الأجوبة المفيدة (ص79): (الحماس للدعوة سليب، والإنسان يكون فيه رغبة إلى الخير وإلى الدعوة، لكن لا يجوز له أن يباشر الدخول في الدعوة إلا بعد أن يتعلم... فالجاهل لا يصلح للدعوة، لابد أن يكون عنده علم.. أما مجرد الحماس، أو مجرد المحبة للدعوة، ثم يباشر الدعوة، هذا في الحقيقة يفسد أكثر مما يصلح، وقد يقع في مشاكل، ويوقع الناس في مشاكل فهذا يكفيه أن يرغب في الخير، ويؤجر عليه إن شاء الله، لكن إن كان يريد الدخول في مجال الدعوة فليتعلم أولا، ما كل واحد يصلح للدعوة، وما كل متحمس يصلح للدعوة، التحمس مع الجهل يضر ولا ينفع).اهـ.
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: (من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح)([18]). اهـ.
وقال الإمام محمد بن سيرين: (ما عمل عامل بغير علم إلا ما يفسد أكثر مما يصلح)([19]). اهـ
إذا لا يرفع الجهل إلا العلم، لأن فاقد لا شيء لا يعطيه، فالأجدر بصاحب هذه المنزلة أن يتخلى عن هذه المهمة، ويترك المجال لأهله، فإن للإسلام رجال يعرفون من أن تؤكل الكتف. فجيب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله ﷺ، موالاة المؤمنين خصوصا العلماء وطلبة العلم... وإن أولى الناس بالموالاة، وأحقهم بالمحبة في الله بعد الأنبياء العلماء وطلبة العلم.
قال ابن تيمية في ((رفع الملام)) (ص11): (فيجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله ﷺ موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم). اهـ.
وقال تعالى:} إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55){([20]).
أي هو الولي الذي تجب موالاته، وتجب موالاة الرسول والمؤمنين... وخصوصا موالاة العلماء وطلبة العلم لوصية الرسول ﷺ بهم –كما تقدم –ووعد سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم قال تعالى:} ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56){([21]) ([22]).
فالموالاة النصرة والمحبة ظاهرا وباطنا... والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو.
قال ابن تيمية في ((الفرقان)) (ص7): (الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والتقرب، وأصل العدواة: البغض والبعد... والولي: القريب...)اهـ.
وقال ابن تيمية في ((التحفة العراقية)) (ص76): (فاتباع سنة رسوله ﷺ واتباع شريعته باطنا وظاهرا هو موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيل الله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه هو حقيقتها).اهـ.
وقال تعالى:} والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض{([23]).
لقد أصبح المؤمنون أولياء بعضهم لبعض، كل منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، ويناصره ويجاهد من أجله.
قال السعدي في ((تفسيره)) (ج3 ص264): (}والمؤمنون والمؤمنات{ أي ذكورهم وإناثهم، }بعضهم أولياء بعض{ في المحبة والموالاة والانتماء والنصرة).اهـ.
قلت: فالحذر الحذر من معاداة العلماء وطلبة العلم أولياء الله والرسول.. فمن عاداهم فهو من حزب الشيطان... وهم الخاسرون، ولو كانوا عدد الحصى. فكل متبع للكتاب والسنة فهو ولي من أولياء الله والرسول كبيرا كان أم صغيرا.
قال السعدي في ((تفسيره)) (ج2 ص310): (}إنما وليكم الله ورسوله{ (فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى، فكل من كان مؤمنا تقيا، كان لله وليا، ومن كان لله وليا، فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله، كان تمام ذلك، تولى من تولاه، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها وأحسنوا للخلق وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم وقوله } وهم راكعون{ أي خاضعون لله ذليلون فأداء الحصر في قوله } إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا{ تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين فقال} ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56){ أي فإنه من الحزب المضافين إلى الله، إضافة عبودية وولاية، وحزبه الغالبون، الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى:} وإن جندنا لهم الغالبون (173){، وهذه بشارة عظيمة، لمن قام بأمر الله، وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإن أديل عليه في بعض الأحيان، لحكمة يريدها الله تعالى، فآخر أمره، الغلبة والانتصار، ومن أصدق من الله قيلا). اهـ.
وقال ابن تيمية في ((الفرقان)) (ص7): (فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له... فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، ولهذا جاء في الحديث: (ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة).اهـ.
فجدير بالمؤمن أن يعيي ويعرف من يحب ومن يبغض، ومن يوالي ومن يعادي ثم يزن نفسه بميزان الكتاب والسنة ليرى أواقف هو في صف الشيطان وحزبه أم في صف عباد الرحمن وحزب الله الذين هم المفلحون، وما عداهم فأولئك هم الذين خسروا الدنيا والآخرة.
وقال ابن القيم في ((مفتاح دار السعادة)) (ج1 ص261): (وفيه –يعني حديث أبي الدرداء السابق –تنبيه على أن محبتهم –يعني أهل العلم –من دين الله، وبغضهم مناف للدين، كما هو ثابت لموروثهم، وكذلك فمعاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو موروثهم... وقال ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل: (من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة). اهـ.
ويؤيده ما ثبت: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن لله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه).
أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (ج11 ص340)، والبيهقي في ((الزهد الكبير)) (ص269)، وفي ((الأسماء والصفات)) (ص623)، وفي ((السنن الكبرى)) (ج3 ص346)، و(ج110 ص219)، وفي ((الأربعين الصغرى)) (ص75)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج5 ص19)، وفي ((مصابيح السنة)) (ج2 ص146)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (ج1 ص4 و5)، والذهبي في ((الميزان)) (ج2 ص164)، وابن بلبان في ((المقاصد السنية)) (ص85) من طريق خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي عمر عن عطاء عن أبي هريرة به.
قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (ج11 ص342): (قوله: (من عادى لي وليا) المراد بولي الله العالم بالله المواظب علىطاعته المخلص في عبادته). اهـ
وقال ابن حجر أيضا (ج11 ص342): (أن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر، والمبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله... وكذا الفاسق المتجاهر ببغضه الولي في الله وببغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته.. فالحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب الهلاك، والله لا يغلبه غالب). اهـ.
وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (ص334): (قوله عز وجل: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) يعني: فقد أعلمته بأني محارب له، حيث كان محارب لي بمعاداة أوليائي... فأولياء الله تجب موالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم... واعلم أن جميع المعاصي محاربة لله عز وجل قال الحسن: (ابن آدم هل لك بمحاربته من طاقة)؟ فإن من عصى الله، فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح، كان أشد محاربة لله، ولهذا سمى الله تعالى أكلة الربا، وقطاع الطريق محاربين لله تعالى في البلاد، وكذلك معاداة أوليائه، فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه، ويحبهم ويؤيدهم، فمن عاداهم، فقد عادى الله وحاربه. وقوله: (وما تقرب إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه): لما ذكر أن معاداة أوليائه محاربة له، ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم، وتجب موالاتهم، فذكر ما يتقرب به إليه، وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة: البعد، فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين:
أحدهما: من تقرب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.
والثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى، وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله، فمن ادعى ولاية الله، والتقرب إليه، ومحبته بغير هذه الطريق، تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله{، وكما حكى عن اليهود والنصارى أنهم قالوا:} نحن أبناء الله وأحباؤه{ مع إصرارهم على تكذيب رسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه. فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين:
أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال... وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته.
وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة... ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدل الراعي في رعيته، سواء كانت رعيته عامة كالحاكم، أو خاصه كعدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال ﷺ: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([24]).
الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى بعد الفرائض بالاجتهاد في النوافل والطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله). اهـ.
وقال الطوفي: (لما كان ولي الله، من تولى الله بالطاعة والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة). ([25]) اهـ.
فالقدح في العلماء إيذاء لهم، والإيذاء للعلماء إيذاء لأولياء الله صالحين، فإن العلماء العاملين يدخلون دخول أوليا في صف الأولياء. وهذا معنى أن إيذاء العلماء أمر خطير لأن من عادى وليا لله فقد أذنه الله بالحرب، والاستهزاء بأهل العلم والفضل، وتعبيرهم والقدح فيهم خطر على دين المرء، إذ قد يقضي بصاحبه إلى ما لم يكن بحسبانه ([26]).
إن الطعن في العلماء ليس طعنا في شخوصهم إنما طعن في العلم الذي يحملونه وبالتالي طعن في الإسلام لأن العلم هو الإسلام، والإسلام جاء من عند الله على رسوله ﷺ.
قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (ج11 ص512): (وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالى على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه فيقدم من قدم الله ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله). اهــ.
وقال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (ج20 ص641): (وليس لأحد أن ينصب للعامة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي ﷺ، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون). اهـ.
إن التعصب للشيوخ سبب من أسباب فرقة المسلمين إذ لو ساغ لكل طائفة أو أهل بلد ذلك التعصب لتفرق المسلمين في دينهم شيعا،} كل حزب بما لديهم فرحون{، وما وقوع أهل البدع في بدعهم وضلالاهم إلا نتاج جملة من الأسباب منها التعصب والتفرق، وهذا أمر يغفل عنه بعض الصالحين في كل زمان، فيتعصبون لعالم أو شيخ ويظنون ذلك التعصب تعصبا للحق، والواجب على المسلم ألا يجعل الموالاة والمعاداة على أساس غير الكتاب والسنة ([27]). والحب الذي يقع من بعض أهل الخير لبعض الشيوخ وأهل العلم قد يصل إلى درجة الغلو وذلك عندما يغلو الإنسان في الحب، ويتجاوز في المدح حتى يثني على شيخه بما ليس فيه وتعود مساوئه عند محاسن، ولا يتقبل فيه قدحا بحال، ولو كان ذلك الحب خاليا من الهوى لم تقع فيه تلك الظواهر، ولم يكن الحب للشخص غالبا على حب المنهج، ومسالك الهوى في هذا دقيقة والمعصوم من عصمه الله([28]).
قال ابن تيمية في ((الوصية الكبرى)) (ص117)؛ في وصيته لأتباع عدي بن مسافر: (الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله وأن يرضى بما رضى الله به ورسوله وأن يكون المسلمون يدا واحدة). اهـ.
قلت: فهذا لأهل الإيمان الحقيقي، أما أهل الأهواء من الحزبيين وغيرهم فإنما ينتصرون لأهوائهم وأحزابهم بغير علم والله المستعان.
ولقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراما كبيرا ويتأدبون معهم.
وعن الشعبي قال: (صلى زيد بن ثابت على جنابة، ثم قربت له نعلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد خل عنه يا ابن عم رسول الله ﷺ فقال ابن عباس: هكذا يفعل بالعلماء والكبراء).
أثر صحيح
أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (ج2 ص360)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (ج5 ص107)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (ج1 ص484)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ج2 ص99)، وفي ((الجامع)) (ج1 ص188)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج1 ص514) من طرق عن رزين الرماني عن الشعبي به.
قلت: وهذا سنده صحيح، وصححه ابن حجر في الإصابة (ج1 ص543).
وقال الهيثمي في ((الزوائد)) (ج9 ص345): (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير رزين الرماني وهو ثقة). اهـ.
وأخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (ج2 ص360)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج3 ص423) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به.
قلت: وهذا سنده حسن.
فيجب احترام علماؤنا وكبراؤنا وطلابنا.
وعن طاووس بن كيسان قال: (من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد).
أثر صحيح
أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) (ج11 ص137) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
وأخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج1 ص459) من وجه آخر ضعيف.
وذكره البغوي في ((شرح السنة)) (ج13 ص43).
فتوقير العلماء وطلبة العلم وتقديرهم واحترامهم من السنة.
قال أحمد بن حنبل لخلف الأحمر: (لا أقعد إلا بين يديك أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه). ([29])
فيجب إجلال العالم وطالب العلم لعلمهما، ولما يحفظا من القرآن والسنة. فاحذر من الاستهزاء بالعلماء وطلبة العلم، والطعن فيهم، واحذر من غيبتهم... وغيبة العلماء وطلبة العلم أعظم من غيبة غيرهم من الناس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت عن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (ج3 ص2001)، والترمذي في ((سننه)) (ج4 ص329)، وابن حبان في ((المجروحين)) (ج1 ص16)، والخطيب في ((الكفاية)) (ص35)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص329)، وابن أبي الدنيا في ((الغيبة)) (ص69)، وفي ((الصمت)) (ص134)، والدارمي في ((السنن)) (ج2 ص299)، وأبو داود في ((سننه)) (ج5 ص191)، وأبو يعلي في ((المسند)) (ج11 ص406)، وابن جرير في ((تفسيره)) (ج26 ص136)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج8 ص387)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (ج10 ص247)، وفي ((شعب الإيمان)) (ج12 ص111)، وفي ((الآداب)) (ص110)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج13 ص138) من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.
قال الشيخ صديق حسن خان في ((إكليل الكرامة)) (ص325): (واعلم أن من أقبح أنواع الظلم ما يرجع إلى الإعراض من غيبة أو نميمة أو شتم أو قذف). اهـ.
وقال ابن كثير في ((تفسيره)) (ج6 ص381): (والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة). اهـ.
وقال القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (ج16 ص337): (والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله). اهـ.
ولم يدر هؤلاء أن اغتياب العلماء وطلبة العلم، والتفكه بأعراض المؤمنين، سم قاتل وداء دفين وإثم واضح مبين... فإذا سمع المنصف هذه الآيات والأحاديث والآثار، وكلام المحققين من أهل العلم والبصائر، وعلم أنه موقوف بين يدي الله ومسؤول عما يقول ويعمل، وقف عند حده، واكتفى به عن غيره.. وأما من غلب عليه الجهل والهوى، وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قال ابن عساكر في ((تبيين كذب المفتري)) (ص28): (واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم). اهـ.
فغيبة العلماء وطلبة العلم أعظم من غيبة غيرهم من الناس... اللهم غفرا.
وإن من الناس اليوم من يخطئ العلماء وطلبة العلم لجهلهم كما يقول بالواقع، وهذه دعوى لا يصح إطلاقها على العلماء وطلبة العلم، فهي دعوى غير صحيحة، إذ العلماء في مجملهم أعرف الناس بالواقع فأكثر من يستمع إلى المشكلات والأمور التي تعرض للناس في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هم العلماء وطلبة العلم.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الكلم عن اتهام العلماء بالجهل بالواقع: (الواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عما لا ينبغي، وألا يتكلم إلا عن بصيرة، فالقول بأن فلانا لم يفقه الواقع هذا يحتاج إلى علم، ولا يقوله إلا من عنده علم حتى يستطيع الحكم بأن فلانا لم يفقه الواقع، أما أن يقول هذا جزافا، ويحكم برأيه على غير دليل فهذا منكر عظيم لا يجوز، والعلم بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء)([30]). اهـ.
نقل الذهبي في ((السير)) (ج17 ص51) عن أبي عبد الرحمن السلمي قوله (من قال لأستاذه لم لا يفلح أبدا)... بلى هنا مريدون أثقال أنكاد، يعترضون ولا يقتدون ويقولون ولا يعملون، فهؤلاء لا يفلحون). اهـ.
وهذا دال على أن الأصل في العلماء أنهم أهل عدل ونصف، وإنما يقع منهم ما يقع من الطعن غير المعتبر للهوى، ومسالك الهوى ومساربة دقيقة، والمعصوم من عصمه الله.
قلت: فلا نعبأ بقول الحزبية في العلماء وطلبة العلم لعداوتهم السائدة } إن ربك لبالمرصاد (14){.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز في ((العلم وأخلاق أهله)) (ص20): (... فطالب العلم له شأن عظيم، وأهل العلم هم الخلاصة في هذا الوجود). اهـ.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في ((أهمية العلم)) (ص34): (ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل بأدلته الظاهرة وبراهينه الساطعة ويقرأ كتب الأئمة المهتديين، ويأخذ منها ما وافق الحق، ويترك ما ظهر بطلانه، وعدم موافقته للحق). اهـ.
وقال شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ((العلم)) (ص28)؛ مادحا طالب العلم: (ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمان الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول: إن مما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة). اهـ.
وقال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (ج22 ص252): (فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده). اهـ.
وقال ابن عبد البر في ((التمهيد))؛ معلقا على حديث سليمان بن يسار ([31]) (ج23 ص150): (وفيه دليل على أن العلماء لم يزالوا يتناظرون ولم يزل منهم الكبير لا يرتفع على الصغير، ولا يمنعون الصغير إذا علم أن ينطق بما علم، ورب صغير في السن كبير في علمه، والله يمن على من يشاء بحكمته ورحمته). اهـ.
قال تعالى:} يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{.
قال القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (ج17 ص299): (أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم).اهـ.
قلت: فوجب توقير طلبة العلم الصغار والله ولي التوفيق. ويجب على العبد أن يكون عالما أو متعلما أو محبا لهم... ومن أفنى بالعلم نفسه، وأحيي بالعلم روحه كان مع المتقين في جنات ونهر... ولن ترتفع درجة في الجنان كدرجة العلماء والمتعلمين ثم درجة المحبين لهم.
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا).
حديث صحيح
أخرجه أبو داود في ((سننه)) (ج5 ص233)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (ص130)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص222)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص62)، وابن طولون في ((الأربعين في فضل الرحمة والراحمين)) (ص37)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج7 ص457 و458) من طرق عن ابن أبي نجيح عن عبيد الله بن عامر ([32]) عن عبد الله بن عمرو به.
قلت: وهذا سنده صحيح، وقد صححه الألباني في ((الصحيحة)) (ج5 ص230).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي في ((سننه)) (ج4 ص322)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (ص130)، وابن طولون في ((الأربعين)) (ص44) من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به وفيه (ويوقر كبيرنا).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الترمذي في ((السنن)) (ج4 ص422): (قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي ﷺ (ليس منا) يقول ليس من سنتنا ليس من أدبنا... قال سفيان الثوري: (ليس من ملتنا)). اهـ
وله شاهد:
أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (ص130) من طريق يزيد بن هارون أخبرنا الوليد بن جميل عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال: (من لم يرحم صغيرنا، ويجل كبيرنا فليس منا).
قلت: وهذا سنده حسن، وقد حسنه الألباني في ((الصحيحة)) (ج5 ص231).
وله شاهد آخر:
أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج7 ص458)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (ص129)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج4 ص178) من طريق عبد الله بن وهب أخبرني أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا).
قلت: وهذا سنده حسن.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
قلت: والعالم يدخل في قوله (كبيرنا)، وطالب العلم يدخل في قوله (صغيرنا).
قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (ج1 ص44): (الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم، والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم). ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو وبعض الأحاديث في هذا الباب.
ومادام العالم بهذه المنزلة فإنه جدير بالاحترام والتقدير، والامتنان لما يبذله من جهود مثمرة). فحري بكل مسلم وكل طالب وكل شخص أن يعرفوا للعلماء منزلتهم اللائقة ويقدروا جهودهم المباركة ويتواضعوا لهم. وكان السلف رحمهم الله يبالغون في الثناء على شيوخهم وتقديرهم. ولقد كان احترام العلماء وهو هدي صحابة النبي ﷺ كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، فكيف بمن علمها إنه يستحق الشكر والثناء.
الله اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وعلمائنا وكل من أحسن إلينا ووفقهم لليسرى وجنبهم العسرى إنك سميع مجيب.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
([2]) قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (ج1 ص287): (أن النبي ﷺ أوصى بطلبة العلم خيرًا وما ذلك إلا لفضل مطلوبهم وشرفه). اهـ
([6]) انْظُرْ: «قواعد التعامل مع العلماء» لابن معلا (ص48)، وَ«مفتاح دار السعادة» لابن القيم (ج1 ص219).
([12]) قال طلق بن حبيب البصري: (التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله).
أخرجه ابن المبارك في «الزُّهْدِ» (ص473)، وابن أبي شيبة في «المُصَنَّفِ» (ج11 ص23)، وفي «الإيمان» (ص33)، وأبو نعيم في «الحلية» (ج3 ص63) بإسناد حسن.
قال ابن القيم في «الرسالة التبوكية (ص26): (وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى).اهـ
وقال الذهبي في «السِّيَرِ» (ج2 ص601): (أبدع وأوجز فلا تقوى إلا بعمل ولا عمل إلا بترو من العلم والإتباع ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله...).اهـ.