الرئيسية / سلسلة من النقد العلمي المنهجي / المفهم في نقد كتاب حصن المسلم 2
المفهم في نقد كتاب حصن المسلم 2
المفهم
في
نقد كتاب حصن المسلم
حوار أثري
لبيان الأحاديث الضعيفة التي في كتاب:
حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة
للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني
تأليف
فضيلة الشيخ أبي عبدالرحمن فوزي بن عبدالله بن محمد الحميدي الأثري
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
درة نادرة
قال الإمام ابن رجب رحمه الله في ((القواعد)) (ص3): (ويأبى([1]) الله العصمة لكتاب غير كتابه).اهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن فإنك نعم المعين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ، وتستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد ا عبده ورسوله .
} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{ [آل عمران: 102].
} يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا { [النساء:1].
} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما { [الأحزاب: 70 ـ 71].
أما بعد: فهذا جزء حديثي لطيف في أذكار الصباح والمساء جمعت فيه روايات الأحاديث التي تكلمت عن أذكار الصباح والمساء من الأحاديث الصحيحة والضعيفة، مع الكلام على إسنادها جرحا وتعديلا، وبيان عللها والحكم عليها تصحيحا، أو تحسينا أو تضعيفا، وذلك لما كان كثير من الناس اليوم لا يعرفون صحيح الحديث من ضعيفه.
قلت: وعلم العلل هو أدق علوم الحديث، وأغمض أنواع الحديث، ولا يقوم به إلا من فهمه الله تعالى هذا العلم الثاقب.
قال ابن حجر رحمه الله في ((النكت)) (ج2 ص711): (وهذا الفن أغمض أنواع الحديث، وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غائصا، وإطلاعا حاويا، وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد من أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك).اهـ
وقال ابن رجب رحمه الله في ((شرح العلل)) (ج2 ص662): (اعلم أن معرفة صحة الحديث وسقيمه يحصل من وجهين:
أحدهما: معرفة رجاله، وثقتهم وضعفهم، ومعرفة هذا هين لأن الثقات والضعفاء قد دونوا في كثير من التصانيف، وقد اشتهرت بشرح أحوالهم التآليف
الوجه الثاني: معرفة مراتب الثقات، وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع ونحو ذلك.
وهذا هو الذي يحصل من معرفته واتقانه، وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علل الحديث).اهـ
وقال ابن رجب رحمه الله في ((شرح العلل)) (ج2 ص662): (ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به، فليكثر طلبة المطالعة في كلام الأئمة العارفين به كيحيى بن سعيد القطان، ومن تلقى عنه كأحمد بن حنبل وابن معين وغيرهما.
فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وفقهت نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس وملكة، صلح له أن يتكلم فيه).اهـ
قلت: وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم لأهل الحديث يبين الأحاديث الصحيحة والضعيفة في أذكار الصباح والمساء التي بينها علماء الحديث.
فهذا جهد علمائنا السلف رحمهم الله تعالى في حفظ السنة النبوية.
ومما لاريب فيه أن كل جهد لأي عالم فهو عرضة للأخذ والرد، ولذا فإن العالم يورد عددا من الأحاديث في كتبه، فيصيب في صحة بعضها، ويخطئ في البعض الآخر، فله أجر على اجتهاده في تبيين السنة النبوية.
وقد أعل العلماء غير ما حديث في كتب الأئمة ولم يقل أحد من العلماء بأن هذا فيه طعن في الأئمة، وفي كتبهم! ([2]).
قلت: وأحيانا لايكفي عزو الحديث، والحكم عليه بذلك، بل لابد من جمع طرقه، وألفاظه حتى يتبين صوابه، أو خطؤه.
فعن الإمام يحيى بن معين رحمه الله قال: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه) ([3]).
وفي رواية: (لو لم نكتب الحديث من مئة وجه ما وقعنا على الصواب).
وعن إياس بن معاوية رحمه الله قال: (إياك والشاذ من العلم).
أثر صحيح.
أخرجه أحمد في ((المسائل)) (ص48)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج10 ص19) من طريق عمر بن علي المقدمي عن سفيان بن حسين عن إياس بن معاوية به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
وعن الإمام أحمد رحمه الله قال: (الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا) ([4]).
قلت: فإذا تأكدنا تفرد راو، أو مخالفته من خلال الجمع والمقارنه، فلذلك يمنع النقاد من تصحيحه، فقارن بين طرقه، وألفاظه بعين فاحصة، ونظرة نافذة، يتبين لك الصحيح منه والضعيف سندا، أو متنا أو كلاهما.
قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله في ((الجامع)) (ج2 ص295): (السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الاتقان والضبط).اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله في ((الفروسية)) (ص64): (وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون روايه قد خالف الثقات، أو شذ عنهم).اهـ
وقال الصنعاني رحمه الله في ((توضيح الأفكار)) (ج1 ص234): (الحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، إذ قد يصح السند، أو يحسن لاستجماع شرائطهما، ولا يصح المتن لشذوذ، أو علة، وقد لا يصح السند، ويصح المتن من طريق أخرى).اهـ
قلت: وقد يصحح بعض المحدثين حديثا لتعدد طرقه دون النظر، والتفحص في متنه، ويكون في المتن مخالفة للقرآن، أو للأحاديث المتواترة الصحيحة، أو لقاعدة علمية تستند إلى جملة نصوص من القرآن والسنة الصحيحة.
مثال ما ينتقد من الأحاديث من جهة المتن، لأنه متناقض لما جاء في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة:
كحديث أبي هريرة t الذي أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (2789) عن أبى هريرة قال: أخذ رسول الله r بيدى فقال: ((خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة فى آخر الخلق، وفى آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)) ([5]).
حديث منكر.
قلت: وقد أعل هذا الحديث غير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار!.
قال البخاري رحمه الله في ((التاريخ الكبير)) (ج1 ص413) بعد أن أورده من طريق أبي هريرة عن رسول الله r: (وقال بعضهم عن أبي هريرة t عن كعب، وهو أصح).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى)) (ج17 ص236): (هو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبي هريرة t عن النبي r، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه).اهـ
وقال ابن كثير رحمه الله في ((تفسيره)) (ج3 ص422) بعد أن أورد هذا الحديث عن مسلم: (فيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: (في ستة أيام)، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا).اهـ
وقال ابن كثير رحمه الله في ((تفسيره)) (ج1 ص99): (هذا الحديث من غرائب ((صحيح مسلم))! ).اهـ
وحديث أبي موسى الأشعري t مرفوعا: ((أمتى هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب فى الآخرة، عذابها فى الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل)).
حديث منكر.
أخرجه أبوداود في ((سننه)) (4278)، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص410)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج4 ص444).
وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله في ((الصحيحة)) (959) بمجموع طرقه.
وهذا الحديث –مع أن أكثر أسانيده لا تصح- منكر المتن، لأنه يخالف الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي r من رواية غير واحد من أصحابه رضي الله عنهم: (أنه يخرج ناس من أمته من النار بالشفاعة).
قال البخاري رحمه الله في ((التاريخ الأوسط)) (ج1 ص396) بعد أن أورد طرق هذا الحديث، وأبان عن عللها: (وفي أسانيدها نظر، والأول أشبه، والخبر عن النبي r في الشفاعة، وأن قوما يعذبون ثم يخرجون، أكثر وأبين).اهـ
وقال الوزير رحمه الله في ((تنقيح الأنظار)) (ص95): (المراد بصحة الإسناد، وحسنه، وضعفه من أساليب أهل الحديث أن يحكموا بالصحة، والحسن، أو الضعف على الأسانيد دون متن الحديث، فيقولون: إسناده صحيح، دون حديث صحيح، ونحو ذلك، وهذا كثير ما يقع في كلام الدارقطني والحاكم).اهـ
قلت: وتظهر براعة طالب الحديث في هذا الفن الشريف في الأحاديث التي تعددت أسانيدها، ولا يخلو واحد منها من مقال، فلا بد له أن يمعن النظر في تلك الأسانيد، ويدرسها دراسة دقيقة وافية، ويتأكد من أن هذه الطرق فيها من الضعف ما يحتمل، فيصحح متن الحديث، أو يحسنه، أو يضعفه على حسب قواعد علم الحديث.
وهناك ظاهرة خطيرة شاعت، وذاعت لا بد من التنبيه عليها: وهو أن كثيرا من طلبة العلم الذين شدوا شيئا من المعرفة في هذا العلم، وظنوا بأنفسهم أنهم قد بلغوا الغاية فيها، يتصدون لتحقيق الكتب، وتخريج ما فيها من أحاديث، ويصدرون الأحكام عليها، بحسب ما عندهم من العلم!، وقد وقع لهم في أثناء ذلك أخطاء كثيرة، وأحكام غير متزنة، ونتائج مبنية على قصور في الاطلاع، فهؤلاء ينبغي لهم أن لا يقحموا أنفسهم في هذا المجال إلا بعد أن يتمرسوا على يد من هو أقدر منهم فيه، وأوسع اطلاعا، وأمهر في معرفة دقائق هذا العلم وخفاياه.
وابن اللبون إذا مـــا لز في قــــــــرن
لم يستطع صولة البزل القناعيس([6])([7])
أخرج ابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج1 ص42) عن يونس قال: (سئل ابن عيينة عن معنى قوله r: (ومن استجمر فليوتر) ([8]) قال: فسكت ابن عيينة، فقيل له أترضى بما قال مالك؟ قال: وما قال مالك؟، قيل: قال مالك: الاستجمار: الاستطابة بالأحجار، فقال ابن عيينة: إنما مثلي، ومثل مالك، كما قال الأول:
وابن اللبون إذا مـــا لز في قــــــــرن
لم يستطع صولة البزل القناعيــــــــس).
وإسناده صحيح.
قال الذهبي رحمه الله في ((تذكرة الحفاظ)) (ج1 ص3):
(وحدث يونس عن الزهري أن أبا بكر حدث رجلا حديثا فاستفهمه الرجل إياه فقال أبو بكر: هو كما حدثتك، (أي أرض تقلني إذا أنا قلت ما لم أعلم؟)([9])، وصح أن الصديق خطبهم فقال: (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار).
وقال علي بن عاصم وهو من أوعية العلم لكنه سيء الحفظ، أنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: (إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب الإيمان). قلت: صدق الصديق فإن الكذب أس النفاق وآية المنافق والمؤمن يطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية لا على الخيانة والكذب، فما الظن بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه وهو القائل: (إن كذبا علي ليس ككذب على غيري، من يكذب علي بني له بيت في النار)، وقال: (من يقل علي ما لم أقل)، الحديث. فهذا وعيد لمن نقل عن نبيه ما لم يقله مع غلبة الظن أنه ما قاله فكيف حال من تهجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعمد عليه الكذب وقوله: (ما لم يقل)، وقد قال عليه السلام: (من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما ذي إلا بلية عظيمة وخطر شديد ممن يروي الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقلتها بالكذب، فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار، ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة، والسهر، والتيقظ، والفهم مع التقوى والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري، والإتقان، وإلا تفعل:
فــــــــــدع عنــــــك الكتابة لســـــــــــــــت منها ولــــــــو ســـــــــــودت وجهــــــــــــــك بالمــــــــــــــــــــــــداد
قال الله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] فإن آنست يا هذا من نفسك فهما، وصدقا، ودينا، وورعا، وإلا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى، والعصبية لرأى والمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت إنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك فبعد قليل ينكشف البهرج، وينكب الزغل، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فقد نصحتك فعلم الحديث صلف فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب، أو تحت تراب، نعم؛ فرأس الصادقين في الأمة الصديق، وإليه المنتهى في التحري في القول، وفي القبول).اهـ
قلت: والمعلل: فهو ما اطلع فيه على علة، وهي عبارة عن سبب غامض قادح في الحديث، مع أن الظاهر السلامة منه، وهذا النوع من أجل أنواع علوم الحديث وأدقها، وإنما يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، وقد تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن.
وتدرك العلة بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم وغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه، فيحكم بعدم صحة الحديث، أو يتردد فيتوقف.
وإنما تخفى العلة على طالب العلم الذي شدا شيئا من هذا الفن، ولم يسبر غوره، ولم يتعرف على خوافيه وأسراره، وأما العالم به، والماهر فيه، الذي قضى معظم وقته في دراسة كتبه، ومعرفة أقاويل أهل العلم الذين اختصوا به، وصاروا أعلاما فيه، فإن معرفة هذه العلل، والتهدي إليها، والكشف عنها، وإقامة الحجة عليها، سهلة ميسورة له([10]).
قلت: وهذا ما يحدوا بطالب العلم المختص بدراسة السنة النبوية –إذا أراد أن يتمرس في معرفة العلل الخفية- أن يطالع المؤلفات التي عنيت بهذا الفن، وهو فن العلل، وفي مقدمتها ((علل الدارقطني)) الذي لم يؤلف مثله في هذا الباب، وأن ينظر فيها نظر تأمل، ويلتمس منها القواعد العامة التي أقاموا عليها هذا العلم، وحينئذ سيدرك بنفسه أن هذا العلم –وإن كان صعب المنال- يمكن أن يدرك بالمعاناة، والدأب، والممارسة، وتذلل عقباته، ويصبح ميسورا له، ويمكنه الإفادة منه في تطبيقه على أحاديث لم ترد في كتب العلل.
وسيقف طالب العلم على أشياء كثيرة تكون سببا في التعليل غير مسطورة في كتب المصطلح، وهذا يدلك على أن قواعد هذا العلم لم يذكر منها إلا القليل الذي يشير إلى ماهو من بابته، ويدل عليه([11]).
وقد ذكر الحاكم في ((معرفة علوم الحديث)) (ص113-119) عشرة أجناس من علل الحديث، وأورد أمثلة عليها من الأحاديث المعلولة، ثم قال: (وبقيت أجناس لم نذكرها، وإنما جعلتها مثالا لأحاديث كثيرة علولة، ليهتدي إليها المتبحر في هذا العلم، فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم).اهـ
وقال مسلم بن الحجاج في ((المقدمة)) (ص28): (فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق، والأمانة، ثم أقدم على الرواية عند من عرفه ولم يتبين ما فيه –لغيره ممن جهل معرفته- كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها، ولعلها –أو أكثرها- أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح –من رواية الثقات وأهل القناعة- أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع.
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفة ما فيها من التوهن والضعف إلا أن الذي يحمله على روايتها، والإعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث، وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق، فلا نصيب له فيه، وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم).اهـ
وقال ابن قتيبة رحمه الله في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص15): (ولم يزالوا في التنقير عنها، والبحث لها، حتى عرفوا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها إلى الرأي).اهـ
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في ((المقدمة)) (ص28): (وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب).اهـ
وبكل حال، فجهود المحدثين من أعظم الجهود المبذولة في خدمة الإسلام والمسلمين، وكيف لا يكون ذلك وهم المقيضون لحراسة قلعة السنة من عبث العابثين، وإفساد المقلدين([12])، من المعترضين الحزبيين([13]) دعاة الشهرة المظهرية، ودعاة الفتنة بين المسلمين.
قلت: وليتهم إذ طلبوا الشهرة سلكوا سبيلها، وعملوا بحقها، ولكن ماذا يكون ظنك بمن لا يرى سبيلا غلى الشهرة إلا الطعن في أهل السنة.
ولذلك على المسلم الحق أن يطلب العلم، ويسلك سبيله، ويعمل بحقه لكي يضبط أصول الكتاب الكريم، والسنة النبوية.
فيعمل جادا في البحث([14]) عما يستنبط منهما من معاني وأحكام فقهية، لكي يتعبد الله تعالى بما شرعه في دينه، وفيما ثبت وصح عن النبي r.
لأن لايجوز لحد كائنا من كان أن يتعبد الله إلا بما شرعه في دينه.
ولذلك يحرم على المسلم أن يتعبد الله بالأحاديث الضعيفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((قاعدة جليلة)) (ص162): (لا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة).اهـ
وقال الشوكاني رحمه الله في ((إرشاد الفحول)) (ص48): (الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن، لا يثبت به الحكم، ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام، وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره، لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع).اهـ
قلت: والتعبد لله بغير ما شرعه من أخطر الأمور على العبد لما يجعله يحاد الله تعالى، ورسوله r([15]).
لأن التشريع من الله تعالى لهذه الأمة الإسلامية ينزل على الرسول r عن طريق الوحيين (الكتاب والسنة) (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:3و4]، ولم يقبض الله تعالى رسول الله r إليه إلا بعد أن أكمل له ولأمته هذا الدين فأنزل عليه قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة:3].
فكان كمال الدين من نعم الله تعالى العظيمة على هذه الأمة الإسلامية.
ولذا كانت اليهود تغبط المسلمين على هذه الآية لما أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (ج4 ص2362): (أن رجلا من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب فقال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية، قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ).
قلت: فإذا تقرر ذلك فإنه لا يجوز لمسلم أن يزيد في دين الله تعالى ما ليس منه، ولا أن يعبد الله تعالى إلا بما شرع الله تعالى ورسوله r، بل يجب على المسلمين جميعا أن يخضعوا لأمر الله تعالى ورسولهr، وأن لا يتبعوا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ولم يشرعه رسوله r مهما رأوه حسنا لأن الدين قد كمل.
[1]) وإن كره المقلدون للعلماء في كتبهم، وفي نقلهم للأحاديث، وغيرها بدون تثبت، والله المستعان.
[2]) ولذلك فقد سلك أهل السنة في هذا الزمان سبيل سلفهم في تمييز السنة، وتحذير المسلمين من نسبة الحديث إلى النبي r دون التحقق من ثبوته، حذرا من الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد في قول النبي r.
[3]) أثر صحيح.
أخرجه الخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1699)، وابن حبان في ((المجروحين)) (ج1 ص33)، والخليلي في ((الإرشاد)) (ج2 ص595) من طرق عن العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
[4])أثر حسن.
أخرجه الخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1700) من طريق محمد بن أيوب المعافي قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت أحمد به.
قلت: وهذا سنده حسن.
وذكره ابن الصلاح في ((المقدمة)) (ص91).
[5])ويغلب على الظن أن أبا هريرة t أوقفه عن كعب، ولكن بعض الرواة ممن رواه عنه أخطأ فجعله مرفوعا إلى النبي r.
فقد روى مسلم في كتاب ((التمييز)) (ص128) بإسناد صحيح عن بكير الأشج قال: قال لنا بسر بن سعيد: (اتقوا الله، وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة t فيحدث عن رسول الله، ويحدث عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله r عن كعب، وحديث كعب عن رسول اللهr).
[6])ابن اللبون: ولد الناقة إذا كان في العام الثاني واستكمله.
لز: شد.
في قرن: في حبل.
البزل: الجماعة القوية.
القناعيس: الشداد. قنعاس.
[7])انظر: ((الحلية)) لأبي نعيم (ج9 ص150)، و((السير)) للذهبي (ج8 ص73).
[8])أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (25) من حديث أبي هريرةt به.
[9])أثر صحيح.
أخرجه البيهقي في ((المدخل)) (ص430)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج10 ص512)، وسعيد بن منصور في ((السنن)) (ج1 ص168)، والمستغفري في ((فضائل القرآن)) (ج1 ص300). وإسناده صحيح.
[10])انظر: ((المنهج الصحيح)) لابن مرشد (ص23).
[11]) انظر: ((المنهج الصحيح)) لابن مرشد (ص25).
[12]) قلت: ومع هذه الجهود العظيمة –التي عنيت بالمحافظة على السنة النبوية- لا تزال كثير من الأحاديث الضعيفة لها حظ في التداول على ألسنة الناس، وفي الكتب، والأشرطة، والجرائد، والإذاعات، ووغيرها، وذلك راجع إلى التساهل في التثبت من صحتها، أو الجهل بعلم الحديث رواية دراية.
ويجمع هذا كله: عدم السؤال عن الأحاديث هل هي صحيحة أم ضعيفة، والإصرار على الجهل بها، وعلى نشر ما اشتهر على الألسنة من الأحاديث.
وبكل حال؛ فعلى المسلم أن يحفظ لسانه من القول على رسول الله r بلا علم، حتى يسلم من الإثم وتبعته.
[13]) ومن هنا يظهر للمسلم الحق مدى الفرق الشاسع بين أهل العلم، وبين أهل الجهل، لأنهم أبعد ما يكونوا عن تفقه هذا العلم الثاقب، وعن معرفة أصوله. اللهم غفرا.
[14]) ولا ينظر إلى شهرة الحاديث والأحكام بين المسلمين بدون نظر في هذه الأحاديث هل هي صحيحة أو غير صحيحة، وإن صدرت من العلماء رحمهم الله تعالى، لأنهم بشر، ومن طبيعة البشر يخطئون ويصيبون، فافهم هذا ترشد.
قال الشوكاني رحمه الله في ((نيل الأوطار)) (ج1 ص15): (ما وقع التصريح –يعني عن الحديث- بصحته أو حسنه جاز العمل به، وما وقع التصريح بضعفه لم يجز العمل به، وما أطلقوه ولم يتكلموا عليه، ولا تكلم عليه غيرهم ولم يجز العمل به إلا بعد البحث عن حاله إن كان الباحث أهلا لذلك).اهـ
[15]) وهؤلاء المقلدة المتعصبة أكثرهم لا يعرفون من الحديث إلا قلة، ولا يكادون يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبئون بما يبلغهم منه أن يحتجوا به، والله المستعان.
قلت: وعلى هذا عادة أهل التقليد في كل زمان ومكان، ليس لهم إلا أراء الرجال أصابوا أم أخطئوا، ألا أن عذرالعالم ليس عذرا لغيره إن تبين أو بين له الحق، وقد وردت أقوال العلماء تؤكد هذا الشيء، وتبين موقفهم من تقليدهم، وأنهم تبرءوا من ذلك جملة، وهذا من كمال علمهم وتقواهم حيث أشاروا بذلك إلى أنهم لم يحيطوا بالسنة كلها.
وانظر: ((هداية السلطان)) للمعصومي (ص19)، وكتابي ((الجوهر الفريد في نهي الأئمة الأربعة عن التقليد)). والله ولي التوفيق.