الرئيسية / ينابيع الأنهار في فقه الكتاب والسنة والآثار / ذم الدنيا
ذم الدنيا
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
من زهد في الدنيا نجا
المقــدمــة
إن الحمد للـه نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ﮋ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﮊ [آل عمران: ١٠٢].
ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﮊ [النساء: ١ ].
ﮋ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﮊ [الأحزاب: ٧٠].
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب اللـه، وخير الهدي هدي محمد ه، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد حذر الإسلام من فتحت عليه زهرة الحياة الدنيا من سوء عاقبتها، وشر فتنتها؛ فلا ينبغي أن يطمئن إلى زخرفها... فتلهف الإنسان على شهوات الدنيا، ونسى لقاء ربه سبحانه، ولم يعمل للاستعداد ليوم المعاد، وليس هذا من الإسلام في شيء.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ* ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ* ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱠ [طه: 125-١٢٤ - ١٢٦].
قلت: فالتنافس في الدنيا يجر الإنسان إلى فساد الدنيا والدين، ثم الهلاك في الدنيا.
فعن عمرو بن عوف الأنصاري ط قال: قال رسول اللـه ه: «فواللـه ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم([1])»([2]).
قلت: فالتعلق بالدنيا يفسد الدين، ويشغل عن الآخرة، اللهم سلم سلم.
وعن جابر بن عبد اللـه ط أن رسول اللـه ه قال: عن جدي ميت من أولاد المعز: «فواللـه للدنيا أهون على اللـه من هذا عليكم» ([3]).
قلت: فالدنيا وما فيها أذل، وأحقر عند اللـه تعالى من هذا الجدي الميت عند الناس.
وعن المستورد بن شداد ط قال: قال رسول اللـه ه: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع» ([4]).
قلت: فالدنيا لا تخدع عاقلا، وإنما تغر من كان جاهلا، فمتاعها في الآخرة قليل، والله المستعان.
وعن أبي هريرة ط قال: قال رسول اللـه ه: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة اللـه عليكم»([5]). وهذا لفظ مسلم في «صحيحه» (2963).
قلت: فالمسلم عليه أن ينظر إلى من هو أدنى منه في أمور الدنيا، والنظر لمن هو أعلى منه في أمور الدين... لأن النظر إلى من هو أكثر منه مالا يؤدي إلى الضجر، والقلق، وعدم شكر نعم اللـه تعالى عليه... والنظر إلى من هو أعلى منه دينا يحفز على المزيد من الطاعة، والإقبال على اللـه تعالى بالعبادة([6]).
وعن أبي هريرة ط قال: قال رسول اللـه ه: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» ([7]).
قلت: وهذا الحديث فيه تحريض المؤمن على الإعراض عن محبة الدنيا، وعدم الانغماس في متاعها؛ كما يفعل الكافر، والمبتدع، وتشوقه إلى الدار الآخرة.
وعن كعب بن عياض ط قال: سمعت النبي ه يقول: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» ([8]).
قلت: وهذا الحديث فيه البيان لما ابتلى الله تعالى به هذه الأمة، وهو المال حيث يظهر به صدق التزامهم، وزكاة نفوسهم، وتمسكهم بمنهجهم([9]).
وبوب عليه الترمذي في «السنن» (ج4 ص366)؛ باب: ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال.
لذلك يجب ترك التوسع في زينة الدنيا، والاستزادة من متاعها، اللهم غفرا.
قلت: فاحذروا الاغترار بها... احذروا الافتتان لها... فينبغي الزهد في الدنيا، وعدم الجري وراء حطامها، أو التعلق بأوهامها، فإنها تعرض نفسها على العباد بحلاوتها، وخضرتها، وزينتها فمن تعلق بها أهلكته، والعياذ باللـه.
فلابد من الاتعاظ وأخذ العبرة من الأمم السابقة، فإن هلاكها كان بسبب فتنة الدنيا، فما حصل لها يحصل للأمة، والله المستعان.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ* ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ* ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆﱠ [الشعراء:205 -207].
قلت: ولكن ينبغي ألا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا... فإن المذموم هو جعل الدنيا غاية الحياة، والتعلق بها، كما يحدث اليوم، والعياذ بالله.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﱠ [القصص:77].
إن مفهوم ذم الدنيا؛ يعني: ألا يتعلق قلب الإنسان بشـيء من شهواتها... وألا تسيطر عليه فتنة من مفاتنها([10])... وألا يتحرك فيها إلا من خلال منهج اللـه تعالى، فيتمتع بما أحل الله تعالى له، وينعم بالطيبات من الرزق، ويعمر الأرض حتى تكون كلمة اللـه تعالى هي العليا، وكلمة الذين كفروا، والذين ابتدعوا السفلى.
وهذا الكتاب يرشدنا إلى ما هو محمود من الدنيا، وما هو مذموم، ويبين لنا أن الدنيا ليست مقصودة لنفسها، وإنما جعلها الله طريقا موصلا إلى الآخرة، ولم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنما جعلها دار بلاء واختبار، اللهم سلم سلم.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﱠ [الرعد:26].
وﭧﭐﭨﭐﱡﭐﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁﱠ [التوبة:38].
قال ابن القيم / في «مدارج السالكين» (ج2 ص9): (والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها، وقلتها وانقطاعها، وسرعة فنائها. والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها. فإذا أراد اللـه بعبد خيرا أقام في قلبه شاهدا يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار). اهـ
هذا ونسأل الله الكريم علما نافعا، وعملا صالحا، وتوفيقا لما يحبه ويرضاه، فهو الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
أبو عبد الرحمن الأثري
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
والله الفاتن في الحياة الدنيا
ذكر الدليل على الزهد في الدنيا،
والحث على التقلل منها، والخوف
من خطرها، والفتنة بها، وسرعة فنائها، والترغيب
في الآخرة وفضلها على الدنيا، والإخبار بشرفها وبقائها
لقد بين الله تعالى أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأنها زينة فانية زائلة، وأن الدار الآخرة هي الحياة الباقية الهانئة التي لا زوال لها، ولا انقضاء، ولو كان يعلم الكفار في الخارج، والمبتدعة في الداخل هذه الحقيقة لآثروا ما يبقى على ما يفنى!.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ [العنكبوت:64].
و ﭧﭐﭨﭐﱡﭐﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﱠ [يونس:24].
وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ* ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱠ [الكهف:45 - 46].
وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ [الحديد:20].
وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ [آل عمران:14].
وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱠ [فاطر:5].
قلت: وهذه الآيات تدل على ذهاب زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وسرعة انقضائها، وزوالها وفنائها... وأن الدار الآخرة كائنة لا محالة لما فيها من الخيرات، والمغفرة والرضوان من اللـه تعالى لمن عمل الصالحات.
وعن أنس بن مالك ط عن النبي ه أنه قال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخره»، وفي رواية: «اللهم لا خير إلا خير الآخره».
أخرجه البخاري في «صحيحه» (ج6 ص46)، ومسلم في «صحيحه» (1805)، والنسائي في «السنن الكبرى» (8313)، وفي «السنن الصغرى» (ج2 ص39)، وأبو عوانة في «المستخرج» (ج4 ص353)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (ج2 ص301)، وأحمد في «المسند» (3209)، و(13646)، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (959)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3324)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (ج9 ص39)، وفي «شعب الإيمان» (10464)، والبغوي في «شرح السنة» (3969)، وابن حبان في «صحيحه» (5789) و(7259)، والطيالسي في «المسند» (2085)، وأبو داود في «سننه» (453)، وابن خزيمة في «صحيحه» (788)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (1319)، والبزار في «المسند» (ج13 ص509) من طرق عن أنس بن مالك ط به.
قلت: فيجب على المؤمن أن يهتم بما عند اللـه تعالى، لأنه هو الباقي الذي لا ينقل نعيمه، ولا يموت أهله... فالعاقل لا يفرح بما يسـره في الدنيا لانقضائها، لأنها دار عبور للآخرة، والله المستعان.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ* ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ* ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱠ [الشعراء:205 -207].
وعن أبي هريرة ط أن رسول اللـه ه قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا». وفي رواية: «يبيع أحدهم دينه». وفي رواية: «بعرض من الدنيا قليل».
أخرجه مسلم في «صحيحه» (ج1 ص110)، وأبو يعلى في «المسند» (6515)، والداني في «السنن الواردة في الفتن» (47 و49)، والآجري في «الشريعة» (80)، وابن البخاري في «مشيخته» (ج3 ص1832)، والترمذي في «سننه» (ج6 ص438)، وأبو عوانة في «المستخرج» (ج1ص50)، وأبو حيان الأندلسـي في «المنتخب من شيوخ بغداد» (ق/100/ط)، وأحمد في «المسند» (ج2 ص15)، والأبرقوهي في «معجم شيوخه» (ق/121/ط)، وابن منده في «الإيمان» (ج1 ص534)، والسلفي في «المشيخة البغدادية» (ق/31/ط)، وابن حبان في «صحيحه» (ج15 ص96)، والبغوي في «شرح السنة» (ج15 ص15)، وفي «معالم التنزيل» (ج2 ص88)، وابن أبي عاصم في «الزهد» (ص88»، والفريابي في «صفة المنافق» (ص77)، والسعدي في «حديثه» (ص348)، والذهبي في «السير» (ج11 ص24)، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص96)، وفي «جامع المسانيد» (ج5 ص464)، وفي «الحدائق» (ج3 ص357) وأبو نعيم في «المسند المستخرج على صحيح مسلم» (ج1 ص188) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ج24 ص457) من طرق عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.
ومن هذا الوجه ذكره ابن حجر في «إتحاف المهرة» (ج15 ص496).
وأخرجه إسحاق بن راهويه في «المسند» (ج1 ص401) من طريق كلثوم بن محمد بن أبي سدرة نا عطاء بن أبي مسلم الخراساني عن أبي هريرة ط به.
وأخرجه أحمد في «المسند» (ج2 ص390)، والفريابي في «صفة المنافق» (ص76) من طريق يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن أبي موسى عن أبي هريرة ط به.
وأورده الهيثمي في «الزوائد» (ج7 ص281): ثم قال: رواه أبو داود، وغيره من قوله: «المتمسك بدينه...» رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قال الحافظ النووي / في «شرح صحيح مسلم» معلقا على حديث أبي هريرة ط في الفتن (ج2 ص133): (معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة، المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف ه نوعا من شدائد تلك الفتن، وهو أنه يمسـي مؤمنا ثم يصبح كافرا، أو عكسه، وهذا لعظم الفتن ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب). اهـ
وقوله ه: «مؤمنا»؛ أي: موصوفا بأصل الإيمان وكماله، «ويمسي كافرا»؛ أي: حقيقة أو كافرا للنعمة أو مشابها للكفرة أو عاملا عمل الكافر، وقيل: المعنى يصبح محرما ما حرمه الله، ويمسي مستحلا إياه وبالعكس... وكل ذلك يفعل لنيل قليل من حطام الدنيا.
و«العرض» ما عرض لك من منافع الدنيا، وهذا ما أشبهه من أحاديث الفتن([11]).
قال الإمام ابن رجب /: (ومن هذا الباب أيضا؛ أي: طلب العلم للرئاسة على الخلق، والتعاظم عليهم؛ كراهة الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها....
وسبب هذا ما يخشى من فتنة الدخول عليهم، فإن النفس قد تخيل للإنسان إذا كان بعيدا عنهم أنه يأمرهم، وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا شاهدهم قريبا مالت النفس إليهم، لأن محبة الشرف كامنة في النفس له، ولذلك يداهنهم، ويلاطفهم...)([12]). اهـ
قلت: فبين ابن رجب رحمه الله خطورة حرص الإنسان على جمع المال، وأنه قد يجر الإنسان الحريص إلى ارتكاب المحظور، وكذلك حرص الإنسان على نيل الشـرف والعلو فهو في الغالب يمنع خير الآخرة، وشرفها، وكرامتها، وأنه قد يؤدي أحيانا إلى الكبر، واحتقار الناس.
والنبي ه ضرب مثلا في حديث: «ما ذئبان جائعان...»، وهو مثل عظيم جدا في فساد دين المسلم بالحرص على المال، والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رعاؤها ليلا، فهما يأكلان في الغنم، ويفترسان فيها.
ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين، والحالة هذه إلا قليل، فأخبر النبي ه أن حرص المرء على المال، والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذا الغنم.
بل إما أن يكون مساويا، وإما أكثر، يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل ([13]).
قلت: فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.
الحرص داء قد أضـر بمـن تـرى إلا قليـلا
كم من حريص طامع والحرص صيره ذليلا([14])
قلت: ومتى وصل الحرص على المال إلى هذه الدرجة نقص بذلك الدين، والإيمان نقصا بينا، فإن منع الواجبات، وتناول المحرمات ينقص بهما الدين، والإيمان بلا ريب حتى لا يبقى منه إلا القليل([15]).
وحرص المرء على الشرف فهو أشد إهلاكا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة، والشرف([16]).
والحرص على الشرف على قسمين:
أحدهما: طلب الشرف بالولاية، والسلطان، والمال، وهذا خطر جدا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة، وشرفها وكرامتها، وعزها.
ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ ﳄ ﳅ ﱠ [القصص: 83].
وقل من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي ه لعبد الرحمن بن سمرة ط: «يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»([17]).
وعن أبي هريرة ط عن النبي ه قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة»([18]).
وقوله ه: «فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة»، فنعم المرضعة: أي في الدنيا، وبئست الفاطمة: يعني بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك.
فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه.
وقيل: نعم المرضعة؛ لما فيها من حصول الجاه، والمال، ونفاذ الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية، والوهمية حال حصولها.
وبئست الفاطمة: عند الانفصال عنها بموت أو غيره، وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة([19]).
وعن أبي ذر ط قال: «قلت: يا رسول اللـه! ألا تستعملني قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي، وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»(