القائمة الرئيسة
الرئيسية / ينابيع الأنهار في فقه الكتاب والسنة والآثار / لمع النبراس في أن العبد لا يستوحش طريق الحق وإن كان عليه قلة من الناس

2023-12-11

صورة 1
لمع النبراس في أن العبد لا يستوحش طريق الحق وإن كان عليه قلة من الناس

فقاعة التفكير: على شكل سحابة: سلسلة
أهل الأثر في مملكة البحرين

سلسلة

ينابيع الأنهار في فقه

الكتاب والسنة والآثار

 

 

                                         

 

 

 
  شكل بيضاوي: 50

 

 

 

 

 

لمع النبراس

في

أن العبد لا يستوحش طريق الحق

وإن كان عليه قلة من الناس

 

تأليف: العلامة المحدث

أبي عبدالرحمن فوزي بن عبدالله بن محمد الحميدي الأثري

غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

 

شعارنا: أمن و أمان في الأوطان

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر برحمتك

المقدمة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام  على خاتم الأنبياء، والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن المؤمن المخلص الأمين غريب بين قومه الذين نشأ بينهم، وترعرع بين أحضانهم، وما ذلك إلا لأنه يدعوهم إلى خير الدنيا والآخرة، وهم مصرون على أن ينهلوا من خير الدنيا دون خير الآخرة، كأنهم بحب الدنيا قد ضمنوا لأنفسم هذه الحياة الهائنة الرغيدة، وجهلوا، أو تجاهلوا أن وراء هذا الخير شر، ألا وهو عقاب الآخرة، اللهم سلم سلم.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله في ((كشف الكربة)) (ص318)؛ عن الخلق: (ففتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك). اهـ

قال تعالى: ]فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم[ [هود: 116].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)) (ج4 ص19): (فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية). اهـ

قلت: وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟؛ قال: أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).([1])

قلت: طوبي: معناه؛ أصابوا خيرا في الدنيا، والآخرة.([2])

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء).([3])

قال الإمام ابن رجب في ((كشف الكربة)) (ص320): (ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض على الجمر). اهـ

قلت: فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها([4])، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس، وجفوه.([5])

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)) (ج4 ص22): (فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدا؛ سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء.

وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله عز وجل فيهم: ]وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله[ [الأنعام: 116] ، فأولئك هم الغرباء من الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم). اهـ

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين))  (ج4 ص25): (ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا). اهـ

قلت: فالمؤمن الصادق هذا غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة([6])، لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده، لفساد عقائدهم، غريب في صلاته، لسوء صلاتهم، غريب في طريقته، لضلال وفساد طرقهم، غريب في معاشرته لهم، لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.([7])

قال الإمام ابن رجب رحمه الله في ((كشف الكربة)) (ص320): (وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه، ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لهم فيما هم عليه). اهـ

قلت: وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم([8])، والله المستعان.

فعن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قال: (استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء).([9])

قلت: فالإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر... وسوف يبقى في آخر الزمان في آحاد من الناس وقلة، كما بدأ، والله المستعان.

فعن سفيان الثوري رحمه الله قال ليوسف بن أسباط: (إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة، فابعث إليهبالسلام، وإذا بلغك عن آخر بالمغرب أنه صاحب سنة، فابعث إليه بالسلام، فقد قل أهل السنة والجماعة).([10])

قال الإمام ابن مفلح رحمه الله في ((الآداب الشرعية)) (ج1 ص263): (ينبغي أن يعرف أن كثيرا من الأمور يفعل فيها كثير من الناس خلاف الأمر الشرعي، ويشتهر ذلك بينهم ويقتدي كثير من الناس بهم في فعلهم. والذي يتعين على العارف مخالفتهم في ذلك قولا وفعلا، ولا يثبطه عن ذلك وحدته([11])، وقلة الرفيق). اهـ

قلت: ولا يغتر العبد بكثرة الفاعلين لما نهينا عنه من المحرمات([12])، نعوذ بالله من الخذلان.

وعن الإمام يونس بن عبيد رحمه الله قال: (أصبح من إذا عرف السنة عرفها غريبا، وأغرب منه الذي يعرفها).([13])

والمعنى: العجب ممن يدعو اليوم إلى السنة، وأعجب منه من يجيب إلى السنة فيقبل.([14])

قال فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله في ((شرح السنة)) (ص463): (صارت السنة غريبة، غريبا من يدعو إليها، وأغرب منه من يعمل بها، فلا شك أنه يأتي أزمان تكون السنة غريبة في أهلها، وكلما تأخر الزمان صارت السنة غريبة، وأهل السنة غرباء ... هؤلاء هم الغرباء في آخر الزمان إذا فسد الناس فهم يتمسكون بالسنة، ويصبرون على ما نالهم من الأذى، ويصبرون على الغربة بين الناس؛ لأن الذين يخالفونهم كثيرون، فهم يعيشون في غربة بين الناس). اهـ

قلت: فيا أهل السنة الزموا السنة، وتمسكوا بها؛ فإنكم غرباء بين الناس.([15])

 فعن الإمام أبي بكر بن عياش رحمه الله قال: (أهل السنة في الإسلام مثل الإسلام في سائر الأديان).

أثر صحيح

أخرجه الهروي في ((ذم الكلام)) (1068)، والخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (ج2ص249)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1ص66)، وابن الجوزي في ((تلبيس إبليس)) (ص17) من طرق عن أبي بكر بن عياش به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

قلت: وهذا هو مصدر إصرار المؤمن الأمين على المضي في الطريق المملوء بالجمر، يتعرض لأصناف البلاء فيتضاعف له الأجر، ويتساقط من حوله الخاذلون؛ فيكون قائد الصبر، وإنه لموكب لن ينقطع أبدا حتى يتم الله تعالى نوره، ويكبت الباطل وشروره، اللهم سلم سلم.

وأخيرا؛ فنسأل الله تعالى أن يتقبل منا جهدنا في خدمة السنة وأهلها، وأن يوفقنا دائما لتقديم المزيد من العمل الصالح، والعلم النافع.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أبو عبد الرحمن الأثري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

ذكر الدليل من الآثار على أن العبد

لا يستوحش طريق الحق في بلده، وإن كان عليه قلة من الناس

 

1) عن الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله قال: (الزم الحق، ولا تستوحش لقلة أهله!).

أثر صحيح

أخرجه البيهقي في ((الزهد الكبير)) (ص131) من طريق الحسين بن الحسن بن أيوب، أنبأنا أبو حاتم الرازي، حدثنا أبو عبد الله النجار -ثقة- قال: قال سفيان بن عيينة به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وتابعه بشر قال: قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (اسلك طريق الحق، ولا تستوحش منه، وإن كان أهله قليلا!).

أخرجه البيهقي في ((الزهد الكبير)) (ص131) من طريق ابن السماك ثنا الحسن بن عمرو قال: سمعت بشرا به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وتابعه إسحاق بن أبي إسرافيل قال: سمعت سفيان بن عيينة قال: (كان يقال: اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها).

أخرجه ابن الجوزي في ((صفة الصفوة)) (ج2 ص235)، وابن وضاح في كتابه ((القطعان([16]))) (ج1 ص39 -الاعتصام).

وذكره الشاطبي في ((الاعتصام)) (ج1 ص39).

قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في ((لمحة عن الفرق)) (ص22): (وليست العبرة بالكثرة، بل العبرة بالموافقة للحق، ولو لم يكن عليه إلا قلة من الناس، حتى ولو لم يكن في  بعض الأزمان إلا واحد من الناس فهو على الحق، وهو الجماعة، فلا يلزم من الجماعة الكثرة، بل الجماعة من وافق الحق، ووافق الكتاب والسنة، ولو كان الذي عليه قليل). اهـ

2) وعن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله قال: (لا تستوحش طريق الهدى؛ لقلة أهله، ولا تغتر بكثرة الناس!).

أثر صحيح

أخرجه البيهقي في ((الزهد الكبير)) (ص131) من طريق محمد بن أبي حمزة المروزي، عن أحمد بن أيوب المطوعي قال: قال الحسين بن زياد قال: قال الفضيل بن عياض به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وأخرجه ابن عساكر في ((تبيين كذب المفتري)) (ص331) بهذا الإسناد عن الفضيل بن عياض قال: (لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغترن بكثرة الهالكين!).

وذكره الشاطبي في ((الاعتصام)) (ج1 ص135).

قلت: فاتبع طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.([17])

3) وعن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله قال: (طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله أنسه).

أثر صحيح

أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج48 ص408 و410) من طريق عبد الجبار بن أحمد السمرقندي حدثنا محمد بن يعقوب بن الفرجي حدثني عبد الصمد بن يزيد مردوية قال: قال الفضيل بن عياض به.

قلت: وهذا سنده حسن.

وتابعه زنجويه بن الحسن حدثنا علي بن الحسن حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل يقول: (طوبى لمن استوحش من الناس، وأنس بربه، وبكى على خطيئته).

أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج48 ص410)، وأبو عبد الرحمن السلمي في ((طبقات الصوفية)) (ص14).

وإسناده حسن.

قلت: فلا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)) (ج4 ص55): (قال بعض السلف -يقصد الفضيل بن عياض-: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك، وعاقوك!). اهـ

4) وعن أحمد بن بشر بن سليمان الشيباني قال: كتب رجل إلى رجل: (أما بعد؛ فليكن أول عملك الهداية بالطريق، ولا تستوحش لقلة أهله، فإن إبراهيم عليه السلام كان أمة قانتا لله لا للملوك، فلا تستوحش مع الله، ولا تستأنس بغير الله).

أثر حسن

أخرجه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (ج9 ص377) من طريق أحمد بن جعفر بن سلم الختلي حدثنا عبد الله بن أحمد بن عيسى الفسطاطي حدثني عمر بن محمد النسائي حدثنا أحمد بن بشر بن سليمان الشيباني به.

قلت: وهذا سنده حسن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى)) (ج4 ص450): (فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله، ونقر بالحق كله ولا يكون لنا هوى ولا نتكلم بغير علم؛ بل نسلك سبل العلم، والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة؛ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض؛ فهذا منشأ الفرقة والاختلاف). اهـ

5) وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: (عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم).

أثر صحيح

أخرجه البيهقي في ((المدخل)) (ص199)، وابن قدامة في ((ذم التأويل)) (ص80) تعليقا، وأبو الفتح المقدسي في ((الحجة)) (ج2 ص602)، والآجري في ((الشريعة)) (ص58)، والخطيب في ((شرف أصحاب الحديث)) (ص7)، والهروي في ((ذم الكلام)) (ج1 ص130)، و(ج3 ص173)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (ج2 ص1071) من طرق عن العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي فذكره.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وذكره الذهبي في ((السير)) (ج7 ص120).

6) وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: (اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم).

أثر صحيح

أخرجه الأصبهاني في ((الحجة)) (ج1 ص102)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1 ص145)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج6 ص143)، وعبد الغني المقدسي في ((الاقتصاد)) (ص217) تعليقا، وابن قدامة في ((ذم التأويل)) (ص34) تعليقا من طريقين عن أبي إسحاق الفزاري قال: قال الأوزاعي فذكره.

قلت: وهذا سنده صحيح.

7) وعن عمرو بن ميمون قال: (قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام، ثم لزمت أفقه الناس بعده: عبد الله بن مسعود، فذكر يوما عنده تأخير الصلاة عن وقتها، فقال:  (صلوها في بيوتكم، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة).

 قال عمرو بن ميمون: فقيل لعبد الله بن مسعود: وكيف لنا بالجماعة؟. فقال لي: (يا عمرو بن ميمون، إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الجماعة، إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت وحدك).

وفي لفظ: (أتدري ما الجماعة. قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).

وفي لفظ آخر: (فضرب على فخذي، وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله).([18])

قلت: فعليكم بتقوى الله تعالى، ولزوم الجماعة، واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، والله المستعان.

8) وعن الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله قال: (لو سألت الجهال عن السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس! ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، فمن كان معه، وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة)

 

وفي لفظ: (ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بالكتاب والسنة).([19])

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((إعلام الموقعين)) (ج5 ص388): (واعلم أن الإجماع، والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض). اهـ

قلت: ومعلوم أن الجماعة بهذا المعنى لا يشترط لها كثرة، ولا قلة بل هي موافقة الحق، وإن خالفه أعظم الناس، وأكثرهم.([20])

9) وعن الإمام أبي العالية رحمه الله قال: (تعلموا الإسلام؛ فإذا تعلمتموه؛ فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تجرفوا الصراط شمالا ولا يمينا، وعليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا؛ فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا بخمس عشرة سنة، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء).

فحدثت به الحسن رحمه الله فقال: (صدق ونصح!).

أثر صحيح

أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (136)، و(202)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (17)، و(214)، والمروزي في ((السنة)) (29)، وابن وضاح في ((البدع)) (77)، والآجري في ((الشريعة)) (19)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج2 ص218)، وابن الجوزي في ((تلبيس إبليس)) (ص17)، وعبد الرازق في ((المصنف)) (ج11 ص367) من طريق حماد بن زيد، ومعمر عن عاصم الأحول عن أبي العالية به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ((إغاثة اللهفان)) (ج1 ص85): (العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها، واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا).اهـ

10) وعن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله قال: (من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد).

أثر صحيح

أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج48 ص406)، والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (ج8 ص426)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج8 ص88)، والمزي في ((تهذيب الكمال)) (ج15 ص110) من طريقين عن الفضيل بن عياض به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

فاصبر على السنة جملة، وتفصيلا إلى أن تموت، والله المستعان.

قال تعالى: ]فصبر جميل[ [يوسف: 83].

 وعن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله قال: (صبر قليل، ونعيم طويل!).([21])

وعن الإمام سفيان بن عيينة، رحمه الله قال: (لم يعط العباد أفضل من الصبر، به دخلوا الجنة!).

أثر حسن

أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج7 ص305) من طريق القاسم بن هاشم، قال: قال إبراهيم بن الأشعث سمعت سفيان بن عيينة به.

قلت: وهذا سنده حسن.

فالصبر فضيلة عظيمة؛ لا يؤتاها إلا ذو حظ عظيم ... والجهل بحقيقته جهل بشعبة عظيمة من شعب الإيمان ... فهو مقام من مقامات الدين مبين، ومنزل من منازل عباد الله تعالى المهتدين، وخصلة من  خصال أهل العزم الموفقين.([22])

قلت: وليس أوفى لبيان قيمة الصبر من أنه لا يعرف حد لثوابه، فقد وعد الله تعالى بتوفية أجر الصابرين من عنده بغير حساب، كما قال تعالى: ]إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب[ [الزمر: 10].

فعن سليمان بن القاسم رحمه الله قال: (كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر. قال الله عز وجل: ]إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب[([23]) [الزمر: 10].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر).([24])

وعن الزبير بن عدي، قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه؛ فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم صلى الله عليه وسلم). وفي رواية: (ما من عام إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم).([25])

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) (ج13 ص20): (المراد شكواهم ما يلقون من ظلمه -يعني: الحجاج- لهم وتعديه). اهـ

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (عليك بالجماعة، فإن الله لن يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، واصبر حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر). وفي رواية: (عليكم بتقوى الله، ولزوم الجماعة).([26])

وعن الإمام الحسن البصري قال: (ابن آدم لا تؤذ، وإن أوذيت فاصبر).([27])

قلت: فالصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله تعالى إلا لعبد يحبه سبحانه، والله المستعان.

فعن الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله: في قوله تعالى: ]سلام عليكم بما صبرتم[ [الرعد: 24] فقال: (صبروا أنفسهم على ما أمرهم به من طاعته، وصبروا أنفسهم عما نهاهم عنه من معصيته، فقالت لهم الملائكة حين أكرمهم الله: ]سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار[ [الرعد: 24]).([28])

وعن الإمام ذي النون المصري رحمه الله قال: (ليس العجب ممن ابتلي فصبر, وإنما العجب ممن ابتلي فرضي).([29])

وعن الإمام السري بن المغلس السقطي رحمه الله قال: (أصبر الناس من صبر على الحق).([30])

قال تعالى: ]فاصبر صبرا جميلا[ [المعارج: 5].

وقال تعالى: ]فصبر جميل[ [يوسف: 18].

وقال تعالى: ]فاصبر إن وعد الله حق[ [غافر: 55].

وقال تعالى: ]ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور[ [الشورى: 43].

وقال تعالى: ]واصبر وما صبرك إلا بالله[ [النحل: 127].

قلت: فيوشك أن يفضي بالصابر البلاء إلى الرخاء، وبالفاجر الرخاء إلى البلاء.

مفتاح باب الفرج الصبر ... كل عسر معه يسر

والدهر لا يبقى على حاله ... والأمر يأتي بعده الأمر

والكره تفنيه الليالي التي ... يفنى عليها الخير والشر

وكيف يبقى حال من حاله ... يسرع فيها اليوم والشهر([31])

قلت: فانتظروا الفرج من الله تعالى، فإنه متوقع، لأن من يكثر قرع الباب يفتح له إن شاء الله تعالى.

فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (مهما ينزل بامرئ شدة يجعل الله بعدها فرجا, وإنه لن يغلب عسر يسرين, وأن الله يقول في كتابه: ]اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون[ [آل عمران: 200]).([32])

قلت: فلا تستوحش لقلة سالكي الطريق المستقيم، ولا تغتر بكثرة سالكي طريق الباطل، وتظن لكثرتهم أنهم على حق، والسلام.

 

هذا آخر ما وفقني الله سبحانه وتعالى إليه في تصنيف هذا الكتاب النافع المبارك -إن شاء الله- سائلا ربي جل وعلا أن يكتب لي به أجرا، ويحط عني فيه وزرا،

وأن يجعله لي عنده يوم القيامة ذخرا... وصلى الله وسلم وبارك

على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين،

وآخر دعوانا أن الحمد الله

رب العالمين



([1]) حديث صحيح.

     أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج2 ص177)، والآجري في ((الغرباء)) (ص23)، وابن المبارك في ((الزهد)) (ج6 ص600)، والبيهقي في ((الزهد الكبير)) (ص116)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج12 ص18) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

     وإسناده صحيح.

([2]) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (ج2 ص686).

([3]) أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (ج1 ص130)، وابن ماجه في ((سننه)) (ج2 ص1320)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص389)، والآجري في ((الغرباء)) (ص20).

([4]) قلت: وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم.

([5]) انظر: ((الغرباء)) للآجري (ص15)، و((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) لابن رجب (ص321)، و((مدارج السالكين)) لابن القيم (ج4 ص23).

([6]) إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه، فهناك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم، ورجله.

     انظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (ج4 ص28).

([7]) انظر: ((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) لابن رجب (ص321)، و((مدارج السالكين)) لابن القيم (ج4 ص28).

([8]) انظر: ((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) لابن رجب (ص322).

([9]) أثر حسن.

     أخرجه اللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1ص164)، وابن الجوزي في ((تلبيس إبليس)) (ص35)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج9ص109)، والبيهقي في ((مناقب الشافعي)) (ج1ص427).

     وإسناده حسن.

     وذكره الذهبي في ((السير)) (ج7 ص273)، والسيوطي في ((مفتاح الجنة)) (ص65).

([10]) أثر حسن.

     أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج7ص34)، وابن الجوزي في ((تلبيس إبليس)) (ص34)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1ص64). 

     وإسناده حسن.   

([11]) قلت: فعدم الوحشة من القلة.   

([12]) وانظر: ((مفتاح الجنة)) للسيوطي (ص64)، و((تاريخ الخلفاء)) له (ص186)، و((الصحيحة)) للشيخ الألباني (1273)، و(1619).

([13]) أثر صحيح.

     أخرجه المزي في ((تهذيب الكمال)) (ج32ص527)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (ج3ص21)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1ص57).

     وإسناده صحيح.

     وذكره الذهبي في ((السير)) (ج6 ص292).  

([14]) وانظر: ((شرح السنة)) للبربهاري (ص134)، و((الاعتصام)) للشاطبي (ج1 ص114). 

([15]) قلت: فمن يدعو اليوم إلى السنة، فهو غريب بين الجهال، اللهم غفرا. 

([16]) ذكره ابن خير الإشبيلي في ((فهرسته)) (ص150)؛ تحت عنوان: ((ومن سائر كتب الحديث))، ونسبه لمحمد بن وضاح، ثم قال!: ((ثلاثة أجزاء)).

([17]) وانظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (ج1 ص135)، و((تيسير الكريم الرحمن)) للشيخ السعدي (ج2 ص462)، و((إعلام الموقعين)) لابن القيم (ج5 ص388).

([18]) أثر صحيح.

     أخرجه اللالكائي في ((الاعتقاد)) (ج1 ص108)، والبيهقي في ((المدخل)) (ج5 ص388-إعلام الموقعين)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج46 ص409)، والمزي في ((تهذيب الكمال)) (ج22 ص264) من طرق عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون به.

    قلت: وهذا سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات.

    وذكره ابن القيم في ((إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان)) (ج1 ص85).

([19]) أثر حسن

     أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (ج9 ص239) من طريق أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا أبي قال قرأت على أبي عبد الله محمد بن القاسم الطوسي قال: سمعت إسحاق بن راهويه به.

     قلت: وهذا سنده حسن.

     وأخرجه الطائي في ((الأربعين)) (ص163)، ودانيال في ((مشيخته)) (ق8-مخطوط) من طريق أبي محمد الحسن بن منصور السمعاني أخبرنا والدي شيخ الإسلام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني قال: حكي عن إسحاق بن راهويه فذكره.

     وذكره الذهبي في ((السير)) (ج12 ص196).

([20]) وانظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (ج2 ص367).

([21]) أثر حسن

     أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج48 ص426).

     وإسناده حسن.

([22]) وانظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (ج3 ص1836 و1837).

([23]) أثر حسن

     أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصبر)) (ص29).

     وإسناده حسن.

([24]) أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (ج2 ص129)، و(ج7 ص183)، ومسلم في ((صحيحه)) (ج3 ص102)، وأحمد في ((المسند)) (ج3 ص47)، والترمذي في ((سننه)) (ج4 ص373).

([25]) أخرجه البخاري في ((صحيحه)) (ج13 ص20)، والترمذي في ((سننه)) (ج4 ص492)، وأحمد في ((المسند)) (ج3 ص177)، وابن أبي الدنيا في ((الصبر)) (ص21 و22).

([26]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصبر)) (ص26)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج4 ص506)، واللالكائي في ((الاعتقاد)) (162)، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (ج1 ص423)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (665)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (85)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (ج3 ص244)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (ج1 ص114).

     وإسناده صحيح.

([27]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصبر)) (ص26).

     وإسناده صحيح.

([28]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصبر)) (ص33)، والبيهقي في ((شعب  الإيمان)) (ج7 ص212).

     وإسناده صحيح.

     وذكره ابن القيم في ((عدة الصابرين)) (ص97).

([29]) أثر  حسن.

     أخرجه البيهقي في ((شعب  الإيمان)) (ج7 ص218).

     وإسناده حسن.

([30]) أثر  حسن.

     أخرجه البيهقي في ((شعب  الإيمان)) (ج7 ص212).

     وإسناده حسن.

([31])  انظر: ((الصبر)) لابن أبي الدنيا (ص58)، و((شعب الإيمان)) للبيهقي (ج7 ص207).

([32]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج5 ص335)، وابن المبارك في ((الزهد)) (217)، وأبو مصعب الزهري في ((الموطأ)) (964)، وأبو داود في ((الزهد)) (80)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج2 ص300)، ومالك في ((الموطأ)) (ج2 ص446)، والطبري في ((جامع البيان)) (ج4 ص221)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (ج7 ص206)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (ج14 ص44)، والذهبي في ((السير)) (ج1 ص15)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج25 ص477)، وابن أبي الدنيا في ((الفرج بعد الشدة)) (ص24).

     وإسناده صحيح.

     وذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (ج2 ص418)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (ص539).


جميع الحقوق محفوظة لموقع الشبكة الأثرية
Powered By Emcan