القائمة الرئيسة
الرئيسية / سلسلة من شعار أهل الحديث / نيل البر في معرفة صفات صلاة قيام الليل وصلاة الوتر

2023-11-29

صورة 1
نيل البر في معرفة صفات صلاة قيام الليل وصلاة الوتر

سلسلة

من شعار أهل الحديث

 

 

                                         

 
  شكل بيضاوي: 150

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نيل البر

في

معرفة صفات صلاة قيام الليل

وصلاة الوتر

 

تأليف

العلامة المحدث الفقيه فوزي بن عبد الله الحميدي الأثري

حفظه الله ورعاه، وجعل الجنة مثواه

 

 

    

ذكر الدليل

على أن صلاة الوتر ثلاث ركعات موصولة، وهي صفة

من صفات صلاة الوتر

 

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله r يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن). وفي رواية: (كان رسول الله r لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر). وفي رواية: (كان رسول الله، r يوتر بثلاث لا يفصل بينهن).

حديث صحيح

أخرجه أبو داود في «سننه» (1349)، والنسائي في «السنن الكبرى» (1404)، وفي «المجتبى» (1698)، والدارقطني في «السنن» (1665)، والحاكم في «المستدرك» (1152)، و(1153)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (ج1 ص280)، والطبراني في «المعجم الأوسط» (6661)، وأحمد في «المسند» (ج6 ص97 و235 و236)، والبيهقي في «معرفة السنن» (ج4 ص70)، وفي «السنن الكبرى» (ج3 ص31)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (ج2 ص53)، والمروزي في في «قيام الليل» (122)، وفي «أحكام الوتر» (ص75)، ومحمد بن الحسن في «الموطأ» (ص146)، وفي «الحجة» (ج1 ص198)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4714) من طريق سعيد بن أبي عروبة، وأبان كلاهما عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال النووي في «المجموع» (ج4 ص17): رواه النسائي بإسناد حسن، ورواه البيهقي في «السنن الكبير» بإسناد صحيح.

وذكره ابن حجر في «فتح الباري» (ج2 ص481)، وفي «إتحاف المهرة» (21671)، وفي «تلخيص الحبير» (ج2 ص115)، وابن القيم في «زاد المعاد» (ج1 ص330).

قلت: فالوتر بثلاث موصولة حسن([1])، لأن النبي r يوتر بثلاث ركعات فيسردها بسلام واحد.

قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (ج1 ص330): (أنه r كان يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن). اهـ

وعن ثابت البناني قال: (بت عند أنس t، فقام يصلي من الليل، وكان يسلم في كل مثنى، فلما كان في آخر صلاته أوتر بثلاث مثل المغرب لم يسلم بينهن). وفي رواية: (فرأيته يصلي مثنى مثنى). وفي رواية: (أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن).

أثر صحيح

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (ج3 ص11)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص80)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (ج1 ص294)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (6903) من طريق حماد بن سلمة، ومعمر الأزدي عن ثابت البناني به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وذكره اللكنوي في «التعليق الممجد» (ج1 ص521).

قال محمد بن الحسن / في «الآثار» (ج1 ص184): (الوتر ثلاث لا يفصل بينهن بتسليم، وهو قول أبي حنيفة). اهـ

وعن طاووس /: (أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن).

أثر صحيح

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (ج3 ص27)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص80) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه طاووس به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وعن أنس بن مالك t: (أنه أوتر بثلاث مثل المغرب). يعني: لم يسلم إلا في الثالثة.

أثر صحيح

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (ج3 ص26)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص80) من طريق معمر عن ثابت عن أنس بن مالك t به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

قلت: والتشبه بصلاة المغرب المراد بالعدد فقط([2])، أما المشابهة الحقيقية في الصفة فلا مشابهة في الصفة؛ لأن صلاة المغرب بثلاث ركعات بتشهدين، وصلاة الوتر بتشهد واحد في آخر ركعة؛ أي: الإيتار بثلاث على أنها متصلة بتشهد في آخرها فقط.([3])

قال الفيرزآبادي / في «سفر السعادة» (ص48): (كان r يسلم في كل ركعتين، ويصلي في آخرهن ثلاث ركعات بتسليمة واحدة). اهـ

وعن أبي خلدة([4])، قال: سألت أبا العالية عن الوتر، فقال: (علمنا أصحاب محمد r أو علمونا أن الوتر مثل صلاة المغرب، غير أنا نقرأ في الثالثة، فهذا وتر الليل، وهذا وتر النهار([5]»؛ يعني: لم يصل الوتر بثلاث موصولات بتشهدين، وتسليم كصلاة المغرب، بل موصولات بتشهد واحد، وبسلام واحد لكنها بعدد صلاة المغرب، فانتبه.

أثر صحيح

أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (ج1 ص293)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص80) من طريق أبي داود قال: ثنا أبو خلدة به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

قال المروزي / في «أحكام الوتر» (ص81): (فالأمر عندنا أن الوتر بواحدة، وبثلاث، وبخمس وسبع وتسع، كل ذلك جائز حسن على ما روينا من الأخبار عن النبي r، وأصحابه من بعده). اهـ

وعن المسور بن مخرمة t قال: (أن عمر بن الخطاب t أوتر بثلاث ركعات؛ لم يسلم إلا في آخرهن).

أثر صحيح

أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (ج1 ص293)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (ج2 ص293)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4639)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص79)، وابن المنذر في «الأوسط» (2631) من طريق ابن أبي هلال وإسماعيل بن محمد عن ابن السباق عن المسور بن مخرمة به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» من وجه آخر عن عمر بن الخطاب t.

وقال ابن حجر في «فتح الباري» (ج2 ص482): (إسناده قوي).

 وذكره اللكنوي في «التعليق الممجد» (ج1 ص521).

وعن عطاء بن أبي رباح /: (أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس فيهن، ولا يتشهد إلا في آخرهن).

أثر صحيح

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1155)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (ج3 ص29)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4640)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص80) من طريقين عن جرير بن حازم عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وذكره ابن حجر في «إتحاف المهرة» (24761)، وفي «فتح الباري» (ج2 ص481).

قال الحاكم / في «المستدرك» (ج2 ص71): (وقد صح وتر النبي r بثلاث عشرة، وإحدى عشرة، وتسع وسبع، وخمس، وثلاث، وواحدة، وأصحها وتره r بركعة واحدة). اهـ

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز / في «الفتاوى» (ج11 ص324): (ولو أوتر بخمس جميعا أو بثلاث جميعا في جلسة واحدة فلا بأس فقد فعله النبي r). اهـ

وقال شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين / في «مجالس شهر رمضان» (ص45): (ويوتر بثلاث، فإن أحب سردها بسلام واحد، وإن أحب صلى ركعتين وسلم ثم صلى الثالثة). اهـ

وعن مكحول /: (أنه كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن).

أثر صحيح

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (ج2 ص294) من طريق وكيع، عن هشام بن الغاز، عن مكحول به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وعن أبي إسحاق، قال: (كان أصحاب علي، وأصحاب عبد الله لا يسلمون في ركعتي الوتر).

أثر صحيح

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (6904) من طريق غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق به.

 قلت: وهذا سنده صحيح.

إذا: فصفة صلاة الوتر:

الوصل، والفصل.

الفصل: والمراد به أن يفصل المصلي ركعات الوتر؛ فيسلم من كل ركعتين، فإذا صلى خمسا مثلا صلى ثنتين ثم ثنتين ثم يسلم، ثم يصلي واحدة.

والوصل: والمراد به أن يصلي الوتر الذي هو أكثر من ركعة متصلا لا يفصل بينها بسلام.([6])

قلت: فالأمر واسع في الوصل والفصل في صلاة الوتر ... وأن السنة أن يصلي المؤمن مرة بالوصل، ومرة بالفصل، فمن صلى صلاة الوتر ركعتين ثم يسلم، ثم صلى ركعة ثم سلم؛ فقد أصاب السنة، ومن صلى صلاة الوتر ثلاث ركعات فيسردها سردا بسلام واحد؛ فقد أصاب السنة، فمرة يأتي بالوصل، ومرة يأتي بالفصل، والله ولي التوفيق.

فعن الأوزاعي / قال؛ في الفصل بين الركعتين والركعة الآخرة: (إن فصل فحسن، وإن تركه لم يفصل فحسن).([7])

وعن القاسم / قال: (ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس).([8])

قال ابن حجر / في «فتح الباري» (ج2 ص485): (ودل ذلك على أنه لا فرق عنده بين الوصل، والفصل في الوتر). اهـ

قلت: وهذا من اختلاف التنوع الذي يحصل به من التيسير، والتخفيف، والسعة، والتخيير للمكلف، ولا شك أن في التخيير من التيسير على المكلف([9]) ما يندفع به حرج التعيين ومشقته.

وهذا ما جاءت به السنة في العبادات المشروعة على أوجه متعددة من حيث وسع النبي r في ذلك، وجعل الكل سنة.([10])

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «خلاف الأمة في العبادات» (ص54): (فإن السنة المحفوظة عن النبي r فيها من السعة، والخير ما يزول به الحرج). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص70): (مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله r). اهـ

قلت: فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أنه كله جائز ... فمن عمل بشيء مما صح جاز في الشريعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «القواعد النورانية» (ص95): (يستحسن كل ما ثبت عن النبي r من غير كراهة لشيء منه). اهـ

وقال ابن القيم / في «الصواعق المرسلة» (ج2 ص518): (وهنا نوع آخر من الاختلاف، وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار الأولى بعد الاتفاق على جواز الجميع؛ كالاختلاف في أنواع الأذان ... فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف؛ فهو اتفاق في الحقيقة). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «منهاج السنة» (ج6 ص124): (وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله r، وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك، لاعتقاده أنه لم يثبت ... فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة).اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص253): (وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة؛ بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع ... ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال، ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال). اهـ

وعلى هذا لابد من استعمال جميع الآثار الواردة في أي صفة من صفات العبادة، وما يترتب على ذلك من تحقيق الائتلاف بين المسلمين بتحسين كل ما ثبتت به الآثار من وجوه العبادة الواحدة.([11])

قلت: ومنهج التنويع بين الوجوه الواردة، وذلك يفعلها جميعها في أوقات شتى من غير جمع بينها، بل يفعل هذا الوجه تارة، ويفعل الوجه الآخر تارة أخرى وهكذا.([12])

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص67): (ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبا، ويفضي ذلك إلى التفرق، والاختلاف إذا فعل آخرون الوجه الآخر). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج24 ص242): (وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال، والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله.

لكن هنا مسألة تابعة وهو أنه مع التساوي أو الفضل أيما أفضل للإنسان المداومة على نوع واحد من ذلك، أو أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة؛ كما كان النبي r يفعل.

والصواب: أن يقال: التنوع في ذلك متابعة للنبي r؛ فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة وإحياء لسنته وجمعا بين قلوب الأمة، وأخذا بما في كل واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبي r لوجوه:

أحدها: أن هذا هو اتباع السنة والشريعة؛ فإن النبي r إذا كان قد فعل هذا تارة، وهذا تارة، ولم يداوم على أحدهما كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعل لأنه فعله.

الثاني: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق، والاختلاف، والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة ندب الكتاب، والسنة إلى جلب هذه؛ ودرء هذه قال الله تعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا[ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ]ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات[ [آل عمران: 105]، وقال تعالى: ]إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء[ [الروم: 32].

الثالث: أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب، فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب، ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة، أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه، وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب!.

الرابع: أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع؛ فإن كل نوع لا بد له من خاصة.

الخامس: أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار، والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة؛ بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم؛ فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لم يوافقه عليه بل ربما أبغضه، بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سببا لترك حقوق له، وعليه يوجب أن ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه، وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه.

وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيرا؛ فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا، ومحبة غير مشروعين؛ ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي بغير حق ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة، والمعاداة غير المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية؛ كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية.

ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع؛ فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعا، وغير ذلك من غير استحقاق شرعي، ويمنع من أمر الشارع إعطائه إيجابا أو استحبابا؛ ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال؛ كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك تفضيل ما لم تفضله الشريعة، والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقادا وإرادة، فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها، وإما مفضولة، والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول r أفضل وأكمل.

السادس: أن في المداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم؛ فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال؛ كما كان عليه أهل الكتاب؛ كما قد رأينا من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة، أو مشفوعة؛ فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وأنكرها، ويصير كأنه سمع أذانا ليس أذان المسلمين.

وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة. قال الله تعالى: ]ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة[ [المائدة: 14].

فأخبر سبحانه أن نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع المشروعة هذا تارة وهذا تارة كان قد حفظت السنة علما وعملا، وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك.

ونكتة هذا الوجه أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ للشريعة، وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه.

السابع: أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل التسوية بين المتماثلين، وحرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية).اهـ

قلت: فالمداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه، والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين، والله المستعان.([13])

قلت: ويقرب من ذلك ما كان يراه الإمام من فصل الوتر عن الشفع، والجماعة يرون الوصل أو بعضهم ... فإذا كان الإمام يرى فصل الوتر عن الشفع، والجماعة يرون الوصل، فموافقتهم في الوصل تأليفا لقلوبهم، واجتماع كلمتهم أولى من العمل بما يراه فاضلا، فيعمل هذا تارة، وهذا تارة، والله ولي التوفيق.([14])

وللعمل بمنهج التنويع في العبادات له فوائد لعل من أهمها ما يلي:

أولا: اتباع السنة النبوية.

ثانيا: تحقيق كمال المتابعة للنبي r، وذلك بفعل العبادة على جميع الوجوه التي شرعها رسول الله r.

ثالثا: حفظ السنة العلمية وإحياؤها، وذلك من خلال التنويع من وجوه العبادة المشروعة.

رابعا: الإعانة على حضور القلب، وزيادة الإيمان.

خامسا: مراعاة اختلاف الأحوال، فإن من حكمة مشروعية اختلاف التنوع هو التيسير على المكلف حيث يختار من الوجوه المتعددة ما يناسب حاله، ويتحقق له فعله إصابة السنة وموافقتها.

سادسا: انتفاع المكلف بما في كل وجه من وجوه العبادة من المصلحة الشرعية، والحكمة الدينية، فإن جميع ما شرعه رسول الله r من الأفعال، والأقوال ينطوي على حكم، ومقاصد تزكو بها النفس، ويصلح بها القلب.

سابعا: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق، والاختلاف، والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة.

ثامنا: أن في ذلك وضعا لكثير من الآثام التي وضعها الشيطان على الأمة بلا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا أثر.

تاسعا: أن ذلك من العدل الذي أمر الله تعالى به الأمة.

عاشرا: تحصيل حسنة لكل واحد من تلك الأنواع المسنونة.([15])

قال تعالى: ]ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون[ [المائدة:6].

وقال تعالى: ]وما جعل عليكم في الدين من حرج[ [الحج:78].

وقال تعالى: ]لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ [البقرة:286].

وقال تعالى: ]لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها[ [الطلاق:7].

وقال تعالى: ]يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ [البقرة: 185].

وقال تعالى: ]يريد الله ليبين لكم[ [النساء:26].

    

ذكر الدليل

على أن صلاة الوتر ثلاث ركعات مفصولة بسلام،

وهي صفة من صفات صلاة الوتر أيضا

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي r قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة).

أخرجه البخاري في «صحيحه» (472)، و(990)، ومسلم في «صحيحه» (749)، والمروزي في «قيام الليل» (ص126)، وفي «أحكام الوتر» (ص59)، ومالك في «الموطأ» (ج1 ص623)، وأبو داود في «سننه» (1326)، والترمذي في «سننه» (1437)، والنسائي في «السنن الكبرى» (438)، وابن ماجه في «سننه» (1321)، وأحمد في «المسند» (ج2 ص49) من طريق نافع، وعبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما به.

يعني: صلاة الليل مثنى مثنى؛ يسلم بين كل ركعتين.([16])

قال ابن حجر / في «فتح الباري» (ج2 ص479): (واستدل بهذا على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل). اهـ

وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله r، قال: (صلاة الليل مثنى مثنى؛ فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة، فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم في كل ركعتين).

أخرجه مسلم في «صحيحه» (749) من طريق شعبة قال: سمعت عقبة بن حريث قال سمعت ابن عمر به.

قلت: وهذا يدل على أيضا من السنة الفصل بين الركعتين والركعة من الوتر.([17])

قال اللكنوي / في «التعليق الممجد» (ج1 ص507): (قوله r: «مثنى مثنى»، استدل به على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل). اهـ

وقال محمد بن الحسن / في «الموطأ» (ج1 ص518): (صلاة الليل عندنا مثنى مثنى). اهـ

وقال الشيخ ابن باز / في «الفتاوى» (ج11 ص321): (معنى: مثنى مثنى؛ يسلم من كل اثنتين، ثم يختم بواحدة وهي الوتر). اهـ

وعن نافع: أن عبد الله بن عمر: (كان يسلم بين الركعة، والركعتين في الوتر).

أثر صحيح

أخرجه البخاري في «صحيحه» تعليقا (991)، ومالك في «الموطأ» (ج1 ص125)، والشافعي في «المسند» (393)، وفي «الأم» (ج1 ص140)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (ج3 ص25 و26)، وفي «معرفة السنن» (1386)، والحدثاني في «الموطأ» (101)، وابن المنذر في «الأوسط» (ج5 ص182)، وأبو مصعب الزهري في «الموطأ» (306) من طريق مالك عن نافع به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

فلهذا إن أحب المسلم أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يصلي ركعة، فله ذلك.([18])

قال ابن المنذر / في «الأوسط» (ج5 ص184): (وإن شاء المصلي صلى ركعتين ركعتين، وإذا أراد أن يوتر بثلاث صلى ركعتين، ثم يسلم ويأتي بالركعة الثالثة،). اهـ

قلت: فإن شاء المسلم أن يفصل بين الشفع، والوتر فله ذلك، فإذا أراد أن يوتر بثلاث ركعات صلى ركعتين، ثم يسلم ثم يوتر بركعة.([19])

فعن الأوزاعي / قال؛ في الفصل بين الركعتين والركعة الآخرة: (إن فصل فحسن، وإن تركه لم يفصل فحسن).([20])

وعن القاسم / قال: (ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس).([21])

قال ابن حجر / في «فتح الباري» (ج2 ص485): (ودل ذلك على أنه لا فرق عنده بين الوصل، والفصل في الوتر). اهـ

وقال شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين / في «مجالس شهر رمضان» (ص45): (ويوتر بثلاث، فإن أحب سردها بسلام واحد، وإن أحب صلى ركعتين وسلم ثم صلى الثالثة). اهـ

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان r يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين يوتر منها بواحدة). وفي رواية: (يصلي r إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل اثنتين، ويوتر بواحدة).

أخرجه البخاري في «صحيحه» (626)، و(994)، وعنده أصل الحديث، ومسلم في «صحيحه» (ج1 ص253 و254)، وأبو داود في «سننه» (1334)، والترمذي في «سننه» (439)، والمروزي في «قيام الليل» (ص120)، وفي «أحكام الوتر» (ص53)، وابن أبي الدنيا في «قيام الليل» (ص463 و489) من طريق عروة بن الزبير عن عائشة به.

قلت: وهذا يدل أن النبي r كان يفصل بين الركعتين والركعة في صلاة الوتر، لقولها رضي الله عنها: (يسلم بين كل ركعتين يوتر منها بواحدة)، فصلاة الوتر داخلة في التسليم بين الركعتين، والركعة، فافطن لهذا.([22])

قال الترمذي / في «السنن» (ج2 ص325): (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي r والتابعين: رأوا أن يفصل الرجل بين الركعتين والثالثة يوتر بركعة، وبه يقول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق).اهـ

وقال ابن نصر المروزي / في «أحكام الوتر» (ص60): (فالذي نختاره لمن صلى بالليل في رمضان وغيره أن يسلم بين كل ركعتين، حتى إذا أراد أن يوتر صلى ثلاث ركعات ... ، ويتشهد في الثانية ويسلم، ثم يقوم فيصلي). اهـ

وعن ابن عون، قال: (كان الحسن يسلم في ركعتي الوتر).

أثر صحيح

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (6875) من طريق أبي أسامة عن ابن عون به.

قلت: وهذا سنده صحيح.

وعن أبي داود قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول في الوتر: (يعجبني أن يسلم في الركعتين).

أثر صحيح

أخرجه الترمذي في «سننه» (ج2 ص325)، والمروزي في «أحكام الوتر» (ص67).

وإسناده صحيح.

إذا: فصفة صلاة الوتر:

الوصل، والفصل.

الفصل: والمراد به أن يفصل المصلي ركعات الوتر؛ فيسلم من كل ركعتين، فإذا صلى خمسا مثلا صلى ثنتين ثم ثنتين ثم يسلم، ثم يصلي واحدة.

والوصل: والمراد به أن يصلي الوتر الذي هو أكثر من ركعة متصلا لا يفصل بينها بسلام.([23])

قلت: فالأمر واسع في الوصل والفصل في صلاة الوتر ... وأن السنة أن يصلي المؤمن مرة بالوصل، ومرة بالفصل، فمن صلى صلاة الوتر ركعتين ثم يسلم، ثم صلى ركعة ثم سلم؛ فقد أصاب السنة، ومن صلى صلاة الوتر ثلاث ركعات فيسردها سردا بسلام واحد؛ فقد أصاب السنة، فمرة يأتي بالوصل، ومرة يأتي بالفصل، والله ولي التوفيق.

فعن الأوزاعي / قال؛ في الفصل بين الركعتين والركعة الآخرة: (إن فصل فحسن، وإن تركه لم يفصل فحسن).([24])

وعن القاسم / قال: (ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس).([25])

قلت: وهذا من اختلاف التنوع الذي يحصل به من التيسير، والتخفيف، والسعة، والتخيير للمكلف، ولا شك أن في التخيير من التيسير على المكلف([26]) ما يندفع به حرج التعيين ومشقته.

وهذا ما جاءت به السنة في العبادات المشروعة على أوجه متعددة من حيث وسع النبي r في ذلك، وجعل الكل سنة.([27])

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «خلاف الأمة في العبادات» (ص54): (فإن السنة المحفوظة عن النبي r فيها من السعة، والخير ما يزول به الحرج). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص70): (مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله r). اهـ

قلت: فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أنه كله جائز ... فمن عمل بشيء مما صح جاز في الشريعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «القواعد النورانية» (ص95): (يستحسن كل ما ثبت عن النبي r من غير كراهة لشيء منه). اهـ

وقال ابن القيم / في «الصواعق المرسلة» (ج2 ص518): (وهنا نوع آخر من الاختلاف، وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار الأولى بعد الاتفاق على جواز الجميع؛ كالاختلاف في أنواع الأذان ... فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف؛ فهو اتفاق في الحقيقة). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «منهاج السنة» (ج6 ص124): (وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله r، وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك، لاعتقاده أنه لم يثبت ... فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة).اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص253): (وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة؛ بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع ... ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال، ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال). اهـ

وعلى هذا لابد من استعمال جميع الآثار الواردة في أي صفة من صفات العبادة، وما يترتب على ذلك من تحقيق الائتلاف بين المسلمين بتحسين كل ما ثبتت به الآثار من وجوه العبادة الواحدة.([28])

قلت: ومنهج التنويع بين الوجوه الواردة، وذلك يفعلها جميعها في أوقات شتى من غير جمع بينها، بل يفعل هذا الوجه تارة، ويفعل الوجه الآخر تارة أخرى وهكذا.([29])

قال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج22 ص67): (ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبا، ويفضي ذلك إلى التفرق، والاختلاف إذا فعل آخرون الوجه الآخر). اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «الفتاوى» (ج24 ص242): (وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال، والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله.

لكن هنا مسألة تابعة وهو أنه مع التساوي أو الفضل أيما أفضل للإنسان المداومة على نوع واحد من ذلك، أو أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة؛ كما كان النبي r يفعل.

والصواب: أن يقال: التنوع في ذلك متابعة للنبي r؛ فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة وإحياء لسنته وجمعا بين قلوب الأمة، وأخذا بما في كل واحد من الخاصة أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبي r لوجوه:

أحدها: أن هذا هو اتباع السنة والشريعة؛ فإن النبي r إذا كان قد فعل هذا تارة، وهذا تارة، ولم يداوم على أحدهما كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع، وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعل لأنه فعله.

الثاني: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق، والاختلاف، والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة ندب الكتاب، والسنة إلى جلب هذه؛ ودرء هذه قال الله تعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا[ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ]ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات[ [آل عمران: 105]، وقال تعالى: ]إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء[ [الروم: 32].

الثالث: أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب، فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب، ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة، أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه، وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات؛ لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب!.

الرابع: أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع؛ فإن كل نوع لا بد له من خاصة.

الخامس: أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار، والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة؛ بلا كتاب من الله، ولا أثارة من علم؛ فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه، ولا يحب من لم يوافقه عليه بل ربما أبغضه، بحيث ينكر عليه تركه له، ويكون ذلك سببا لترك حقوق له، وعليه يوجب أن ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه، وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به، وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه.

وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيرا؛ فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا، ومحبة غير مشروعين؛ ثم يخرج إلى المدح والذم، والأمر والنهي بغير حق ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة، والمعاداة غير المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية؛ كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية.

ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع؛ فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعا، وغير ذلك من غير استحقاق شرعي، ويمنع من أمر الشارع إعطائه إيجابا أو استحبابا؛ ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال؛ كما وقع في بعض أرض المشرق، ومبدأ ذلك تفضيل ما لم تفضله الشريعة، والمداومة عليه، وإن لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقادا وإرادة، فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها، وإما مفضولة، والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول r أفضل وأكمل.

السادس: أن في المداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين، وفي نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم؛ فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق، وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال؛ كما كان عليه أهل الكتاب؛ كما قد رأينا من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة، أو مشفوعة؛ فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وأنكرها، ويصير كأنه سمع أذانا ليس أذان المسلمين.

وهجران بعض المشروع سبب لوقوع العداوة والبغضاء بين الأمة. قال الله تعالى: ]ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة[ [المائدة: 14].

فأخبر سبحانه أن نسيانهم حظا مما ذكروا به سبب لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، فإذا اتبع الرجل جميع المشروع المسنون، واستعمل الأنواع المشروعة هذا تارة وهذا تارة كان قد حفظت السنة علما وعملا، وزالت المفسدة المخوفة من ترك ذلك.

ونكتة هذا الوجه أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم أنه جائز مشروع، وفي العمل به تارة حفظ للشريعة، وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه.

السابع: أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل التسوية بين المتماثلين، وحرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية).اهـ

قلت: فالمداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع، وذلك سبب لنسيانه، والإعراض عنه، حتى يعتقد أنه ليس من الدين، والله المستعان.([30])

قلت: ويقرب من ذلك ما كان يراه الإمام من فصل الوتر عن الشفع، والجماعة يرون الوصل أو بعضهم ... فإذا كان الإمام يرى فصل الوتر عن الشفع، والجماعة يرون الوصل، فموافقتهم في الوصل تأليفا لقلوبهم، واجتماع كلمتهم أولى من العمل بما يراه فاضلا، فيعمل هذا تارة، وهذا تارة، والله ولي التوفيق.([31])

وللعمل بمنهج التنويع في العبادات له فوائد لعل من أهمها ما يلي:

أولا: اتباع السنة النبوية.

ثانيا: تحقيق كمال المتابعة للنبي r، وذلك بفعل العبادة على جميع الوجوه التي شرعها رسول الله r.

ثالثا: حفظ السنة العلمية وإحياؤها، وذلك من خلال التنويع من وجوه العبادة المشروعة.

رابعا: الإعانة على حضور القلب، وزيادة الإيمان.

خامسا: مراعاة اختلاف الأحوال، فإن من حكمة مشروعية اختلاف التنوع هو التيسير على المكلف حيث يختار من الوجوه المتعددة ما يناسب حاله، ويتحقق له فعله إصابة السنة وموافقتها.

سادسا: انتفاع المكلف بما في كل وجه من وجوه العبادة من المصلحة الشرعية، والحكمة الدينية، فإن جميع ما شرعه رسول الله r من الأفعال، والأقوال ينطوي على حكم، ومقاصد تزكو بها النفس، ويصلح بها القلب.

سابعا: أن ذلك يوجب اجتماع قلوب الأمة وائتلافها، وزوال كثرة التفرق، والاختلاف، والأهواء بينها، وهذه مصلحة عظيمة، ودفع مفسدة عظيمة.

ثامنا: أن في ذلك وضعا لكثير من الآثام التي وضعها الشيطان على الأمة بلا دليل من كتاب، ولا سنة، ولا أثر.

تاسعا: أن ذلك من العدل الذي أمر الله تعالى به الأمة.

عاشرا: تحصيل حسنة لكل واحد من تلك الأنواع المسنونة.([32])

قال تعالى: ]ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون[ [المائدة:6].

وقال تعالى: ]وما جعل عليكم في الدين من حرج[ [الحج:78].

وقال تعالى: ]لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ [البقرة:286].

وقال تعالى: ]لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها[ [الطلاق:7].

وقال تعالى: ]يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ [البقرة: 185].

وقال تعالى: ]يريد الله ليبين لكم[ [النساء:26].

 

õõõõõõõ

 

 

 

õõõõõõ

 

 



([1]) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (ج2 ص481)، و«مجالس شهر رمضان» لشيخنا ابن عثيمين (ص45)، و«قيام الليل» للشيخ الألباني (ص28)، و«صلاة التراويح» له (ص83)، و«التعليق الممجد على موطأ محمد» للكنوي (ص520 و521)، و«الفتاوى» للشيخ ابن باز (ج11 ص324)، و«زاد المعاد» لابن القيم (ج1 ص330)، و«الآثار» لمحمد بن الحسن (ج1 ص184)، و«الحجة» له (ج1 ص190)، و«الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود (ج1 ص60)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (ج2 ص263)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص294)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (ج3 ص320).

 

([2]) وحديث النهي بثلاث، والتشبه بصلاة المغرب، لا يصح.

     أخرجه الدارقطني في «السنن» (1650)، و(1651)، وابن حبان في «صحيحه» (2429)، وابن نصر في «قيام الليل» (ص300)، وقد اختلف في وصله، ووقفه.

([3]) وانظر: «فتح الباري» لابن حجر (ج2 ص481)، و«التعليق المغني» للعظيم آبادي (ج2 ص245 و246)، و«سفر السعادة» للفيروز آبادي (ص48)، و«الآثار» لمحمد بن الحسن (ج1 ص184)، و«الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود (ج1 ص60)، و«الحاشية على شرح منهج الطلاب» للجمل (ج2 ص243)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (ج3 ص321).

([4]) تصحف إلى «أبي خالدة» والصحيح ما أثبتناه.

     وانظر: «معاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار» للطحاوي (ج3 ص141).

([5]) يعني: صلاة المغرب.

     انظر: «أحكام الوتر» للمروزي (ص80).

([6]) وانظر: «الفقه الميسر» للدكتور الطيار (ج1 ص355)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص293 و294)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (ج3 ص320)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (ج2 ص265)، و«المغني» لابن قدامة (ج2 ص157)، و«المجموع» للنووي (ج3 ص479).

([7]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (ج5 ص182)، وفي «الإشراف» (ج2 ص265).

    وذكره ابن قدامة في «المغني» (ج2 ص150)، والنووي في «المجموع» (ج4 ص24).

([8]) أخرجه البخاري في «صحيحه» (ج2 ص478).

([9]) حيث يختار المكلف من الوجوه ما شاء، مما يتناسب مع حاله أو وقته، أو فهمه، وحفظه.

([10]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج19 ص118)، و(ج22 ص70)، و(ج24 ص198)، و«الأوسط» لابن المنذر (ج3 ص73)، و«مختصر المختصر من المسند الصحيح» لابن خزيمة (ج1 ص226)، و«الاستذكار» لابن عبد البر (ج4 ص282)، و«الموافقات» للشاطبي (ج5 ص214).

([11]) انظر: «اختلاف التنوع» للخشلان (ص135).

([12]) وانظر: «القواعد النورانية» لابن تيمية (ص95 و101 و131)، و«الفتاوى» له (ج22 ص462)، و(ج24 ص242).

([13]) قلت: والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول r أفضل وأكمل.

([14]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج22 ص368).

([15]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج22 ص347 و348)، و(ج24 ص247)، و«الشرح الممتع» لشيخنا ابن عثيمين (ج3 ص30 و48)، و«فتح الباري» لابن حجر (ج11 ص162)، و«جلاء الأفهام» لابن القيم (ص460)، و«الاستذكار» لابن عبد البر (ج4 ص282)، و«الموافقات» للشاطبي (ج5 ص214).

([16]) انظر: «أحكام الوتر» للمروزي (ص60)، و«قيام الليل» له (ص126)، و«فتح الباري» لابن حجر (ج2 ص480)، و«الأوسط» لابن المنذر (ج5 ص182)، و«الإشراف» له (ج2 ص262)، و«قيام الليل» للشيخ الألباني (ص28)، و«صلاة التراويح» له (ص90)، و«سفر السعادة» للفيروزآبادي (ص48)، و«التعليق الممجد» للكنوي (ج1 ص518)، و«عمدة القاري» للعيني (ج3 ص403)، و«زاد المعاد» لابن القيم (ج1 ص330)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (ج3 ص320)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص289).

([17]) وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (ج5 ص184)، و«الإشراف» له (ج2 ص265)، و«فتح الباري» لابن حجر (ج2 ص480)، و«مجالس شهر رمضان» لشيخنا لابن عثيمين (ص45)، و«سفر السعادة» للفيروزآبادي (ص48)، و«قيام الليل» للشيخ الألباني (ص28)، و«الفتاوى» لابن باز (ج11 ص324)، و«التعليق الممجد» للكنوي (ج1 ص507)، و«المغني» لابن قدامة (ج2 ص150)، و«بداية المجتهد» لابن رشد (ج1 ص236)، و«شرح السنة» للبغوي (ج4 ص82 و83)، و«نيل الأوطار» للشوكاني (ج3 ص42 و43)، و«الحجة» لمحمد بن الحسن (ج1 ص190)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص393).

([18]) وانظر: «الأوسط» لابن المنذر (ج5 ص184)، و«المجموع» للنووي (ج4 ص24)، و«زاد المعاد» لابن القيم (ج1 ص329)، و«مجالس شهر رمضان» لشيخنا لابن عثيمين (ص45)، و«التعليق الممجد» للكنوي (ج1 ص518)، و«قيام رمضان» للشيخ الألباني (ص28)، و«صلاة التراويح» له (ص91)، و«سفر السعادة» للفيروزآبادي (ص48)، و«نيل الأوطار» للشوكاني (ج3 ص393).

([19]) وانظر: «فتح الباري» لابن حجر (ج2 ص483)، و«المغني» لابن قدامة (ج2 ص150)، و«نيل الأوطار» للشوكاني (ج3 ص39)، و«قيام رمضان» للشيخ الألباني (ص28)، و«أحكام الوتر» للمروزي (ص66)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص293).

([20]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (ج5 ص182)، وفي «الإشراف» (ج2 ص265).

    وذكره ابن قدامة في «المغني» (ج2 ص150)، والنووي في «المجموع» (ج4 ص24).

([21]) أخرجه البخاري في «صحيحه» (ج2 ص478).

([22]) وانظر: «أحكام الوتر» للمروزي (ص60)، و«الأوسط» لابن المنذر (ج5 ص182 و184)، و«مجالس شهر رمضان» لشيخنا ابن عثيمين (ص45)، و«المجموع» للنووي (ج4 ص24)، و«المغني» لابن قدامة (ج2 ص447)، و«نيل الأوطار» للشوكاني (ج3 ص39)، و«زاد المعاد» لابن القيم (ج1 ص329)، و«قيام رمضان» للشيخ الألباني (ص28)، و«صلاة التراويح» له (ص90)، و«الفتاوى» للشيخ ابن باز (ج11 ص307 و308).

([23]) وانظر: «الفقه الميسر» للدكتور الطيار (ج1 ص355)، و«الحاوي الكبير» للماوردي (ج2 ص293 و294)، و«كفاية النبيه» لابن الرفعة (ج3 ص320)، و«الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (ج2 ص265)، و«المغني» لابن قدامة (ج2 ص157)، و«المجموع» للنووي (ج3 ص479).

([24]) أثر صحيح.

     أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (ج5 ص182)، وفي «الإشراف» (ج2 ص265).

    وذكره ابن قدامة في «المغني» (ج2 ص150)، والنووي في «المجموع» (ج4 ص24).

([25]) أخرجه البخاري في «صحيحه» (ج2 ص478).

([26]) حيث يختار المكلف من الوجوه ما شاء، مما يتناسب مع حاله أو وقته، أو فهمه، وحفظه.

([27]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج19 ص118)، و(ج22 ص70)، و(ج24 ص198)، و«الأوسط» لابن المنذر (ج3 ص73)، و«مختصر المختصر من المسند الصحيح» لابن خزيمة (ج1 ص226)، و«الاستذكار» لابن عبد البر (ج4 ص282)، و«الموافقات» للشاطبي (ج5 ص214).

([28]) انظر: «اختلاف التنوع» للخشلان (ص135).

([29]) وانظر: «القواعد النورانية» لابن تيمية (ص95 و101 و131)، و«الفتاوى» له (ج22 ص462)، و(ج24 ص242).

([30]) قلت: والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول r أفضل وأكمل.

([31]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج22 ص368).

([32]) وانظر: «الفتاوى» لابن تيمية (ج22 ص347 و348)، و(ج24 ص247)، و«الشرح الممتع» لشيخنا ابن عثيمين (ج3 ص30 و48)، و«فتح الباري» لابن حجر (ج11 ص162)، و«جلاء الأفهام» لابن القيم (ص460)، و«الاستذكار» لابن عبد البر (ج4 ص282)، و«الموافقات» للشاطبي (ج5 ص214).


جميع الحقوق محفوظة لموقع الشبكة الأثرية
Powered By Emcan