الرئيسية / محاضرات / ترجمة شيخنا العلامة الفقيه العثيمين رحمه الله (تامة)
2024-04-29
ترجمة شيخنا العلامة الفقيه العثيمين رحمه الله (تامة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهذا درس سوف نتكلم فيه عن فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين شيخنا وقدوتنا وأستاذنا رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وقبل أن ندخل في الموضوع وفي ترجمته رحمه الله تعالى نريد أن نمهد لهذا الأمر لأن هذا الأمر عظيم جدًا، وفيه فوائد كثيرة لطلبة العلم خاصة وللمسلمين عامة، فنقول:
* فإن الله تعالى امتن على هذه الأمة بالعلماء الربانيين وطلاب العلم المتمكنين، فكانت نعمتهم أعظم النعم على الأمة وأجلها، وهم أكرم الخلق عند الله وأرفعهم قدرًا وأفضلهم على وجه الأرض بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام، فالرسل هم القدوة وهم الأساس في الدعوة والعلم والفضل، ويليهم العلماء، ثم طلاب العلم، فكل من كان أعلم بالله كان أقرب الناس من الرسل.
* وإن من تمام هذه النعمة توريث الله تعالى العلماء وطلاب العلم علوم الرسل والأنبياء،
* فكانوا هم ورثتهم القائمين في أمتهم بمهمة البلاغ ونشر العلم، والتعليم، وبيان الحلال والحرام، وتوجيه الناس إلى الخير، وإرشادهم إلى الحق، وتوصيلهم للهدى، فأخلاقهم عظيمة، وصفاتهم حميدة، وأعمالهم جليلة خلفاء الرسل، فآثارهم عظيمة شكر الله لهم، فالعلم من علامات الخير والفلاح، ومن علامات التوفيق، فهم يحملون العلم في صدورهم، ويدعون إليه الناس وأقوامهم بحقه، وهم أعرف الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقيام بحقهما، فكان لهم الاعتبار والمكان في الشريعة المطهرة، وواجب على الأمة طاعتهم في طاعة الله ورسوله، وموالتهم واحترامهم وتوقيرهم ومحبتهم ومعاونتهم على البر والتقوى.
* وعلى هذا جرى سلف الأمة وأئمة المسلمين في كل بلد وزمان، فعرفوا لهم أقدارهم ومنازلهم ومكانتهم، ويتبين ذلك من أقوالهم وأفعالهم، ثم خلف خلوف قلّ فيها العلم وأهله وقل اعتبار الناس للعلماء وطلبة العلم، فلم ينزلوهم منازلهم، ولم يرفعوا لهم رأسًا، وأساءوا بهم الظن واستطالوا عليهم فكانت عاقبة أمرهم خسرا وأضلوا، ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:32].
* وما أدري إن كانت قلوب هؤلاء لا تنفعهم الموعظة، ولا تفيدهم الذكرى، ألم تزجرهم النصوص المرهبة والمرعبة عن فعلهم هذا الشنيع! فلو نظرت مكانة العلماء في الشرع مكانة عظيمة ورفيعة عند الله سبحانه وتعالى، فلا بد على ذلك أن نعطي هؤلاء منزلتهم واحترامهم وتوقريهم؛ لأن ذلك من أصول أهل السنة والجماعة، فلا بد أن نقدر هؤلاء العلماء وطلبة العلم لكي نفوز بالدارين بالطمأنينة والسكينة والرفعة والعلم والأجر في الدنيا، ولك في الآخرة جنات.
فلا بد أن نعطي هؤلاء المنزلة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياهم، ولا نكون كأهل البدع وأهل التحزب الذين لم يعطوا هؤلاء المنزلة والمكانة، فقاموا يطعنون في العلماء الربانيين وطلبة العلم المتمكنين، حتى كانت عاقبة هؤلاء خسرًا، وعاقبة كل واحد من هؤلاء الهلاك والخسران، فلا بد أن نرجع إلى منهج السلف الصالح في العلماء وطلبة العلم، فلهم منزلة لماذا؟ لهم منزلة عند السلف؛ لأن ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم، ووصية الصحابة، ووصية التابعين للعلماء وطلبة العلم، فلا بد على الأمة أن يعطون هؤلاء المكانة.
ولقد اعتبرت الشريعة الإسلامية للعلماء منزلة ليست لغيرهم من الناس، وجعلت لهم مقامًا رفيعًا، وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله عز وجل، كما اعتبرت الشريعة لطلبة العلم أيضًا منزلة لهم ليست لغيرهم من الناس، وإن كانوا دون العلماء وجعلت لهم فضلًا وشرفًا ومقامًا رفيعًا أيضًا، وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله تعالى، فهم ورثة العلماء، ووجب موالاتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم.
بل الله سبحانه وتعالى أعطى العلماء وطلبة العلم الولاية والإمارة كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:59]، وأمر الله تعالى بطاعتهم وطاعتهم مستلزمة محبتهم واحترامهم وتوقيرهم.
وقال هنا شيخنا الشيخ محمد صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى في «العلم» (ص17): (أن أهل العلم هم أحد صنفين ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام والعلماء وطلبة العلم). اهـ
* فبيّن شيخنا رحمه الله تعالى في هذا النص وفي هذه الآية أن أولي الأمر هنا هم الحكام، والقضاة، والعلماء، وطلبة العلم كذلك، فيجب للأمة ويجب على الأمة أن تطيع هؤلاء في طاعة الله وفي طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن يتخلف عن طاعة هؤلاء يأثم بلا شك؛ لأن هذا أمر، والأمر كما هو مقرر في أصول الفقه يقتضي الوجوب ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ هذا أمر من الله سبحانه وتعالى، فأنت ما تطيع هذا الرجل أو هذا الحاكم أو هذا العالم أو هذا طالب العلم، أنت تطيع الله سبحانه وتعالى أولًا، ثم هذا، لماذا؟ لأنه قال الله وقال رسوله، فأنت تطيع العالم، أو طالب العلم لما أمرك الله سبحانه وتعالى به في طاعة هؤلاء؛ لأن في طاعة هؤلاء لك الخير، ولبلدك، وللأمة، وللعالم أجمع.
لكن التخلف وعصيان هؤلاء بلا شك خذلان للإنسان، وخذلان للبلدان، وخذلان للأمة والعالم أجمع كما هو مشاهد، فليس الأمر بسهل أن هذا الطالب مثلًا لا يطاع لصغره مثلًا لا، هذا الطالب يقول قال الله وقال الرسول، فلا بد أن يطاع لأنه أمر من الله سبحانه وتعالى.
وكما قال الإمام مالك بن أنس في قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام:83] قال: (بالعلم)،
أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السُّنَنِ الكُبْرَى»؛ بإسناد صحيح.
* ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر كذلك مكانة لطلبة العلم وأوصى بهم كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أنه كان إذا رأى الشباب يعني طلبة العلم قال مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وهو أثر صحيح عنه أخرجه الترمذي في «سننه»، وابن ماجة في «سننه»، والبيهقي في «شعب الإيمان»، وفي «المدخل»، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» وغيرهم، وكذلك له طريق آخر أخرجه الحاكم في «المستدرك» من طريق أبي سعيد الخدري أنه قَالَ: «مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بكم»، وهو أثر صحيح حسن عنه.
فلذلك وصية من الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تُتبع وتؤخذ، لكنا نجد بعض الجهلة يطعنون في العلماء ويطعنون في طلبة العلم، فليس لهم والعياذ بالله إلا الخذلان، وعاقبتهم خسرى يوم القيامة، فلذلك هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة.
كذلك بيّن أهل العلم هذا الأمر العظيم كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في «العلم وأخلاق أهله» (ص20): (وطالب العلم له شأن عظيم، وأهل العلم هم الخلاصة في هذا الوجود). اهـ
* فأهل العلم من العلماء وطلبة العلم خلاصة هذا الوجود، فكيف نترك هؤلاء! ونهجر مجالس هؤلاء! وحلقات هؤلاء! وكيف نهجر صحبة هؤلاء! فالذي يفعل ذلك ليس له إلا الخذلان، وهذا مشاهد الذين تركوا مجالس أهل العلم، وهجروا صحبة هؤلاء ليس لهم كما ترون إلا الخذلان وكما قال شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في «العلم» (ص28)؛ مادحًا طالب العلم ثم يقول: (ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمان الأول، ولا توجد في الكتب، فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب علم، ولهذا أقول أن مما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشَّرِيعَةِ). اهـ
فلطالب العلم رفعة، وللعلماء رفعة لأن لا يستطيعون أن ينفون ويدافعون عن الدين إلا هم، ولا يستطيعون أن ينفون البدع والخرافات عن الناس إلا هم، فلهم مكانة، ولذلك تجد الناس يخضعون للعلماء لرفعتهم بالعلم، ويحبونهم أهل الحق كثيرًا، ويصحبونهم، وأهل العلم يثنون على العلماء، وتجد إذا توفى العالم له رفعة، وإذا توفى طالب العلم له رفعة عند الناس، وانظر إلى جنازة الشيخ عبد العزيز بن باز كيف كانت، وكيف المادحين والمثنين عليه في الإذاعات أو في الكتب أو في الأشرطة، وانظر إلى جنازة شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين كيف ذلك الألوف المؤلفة يصلون عليه، وكثير من الناس يثنون عليه، والعلماء يثنون عليه، وهكذا، والآن الجرائد تكتب، كل ذلك؛ لأن عنده العلم الشرعي ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ يعني بالعلم، وإلا لو كان رجلًا عاديًا ما كانت له هذه المنزلة، صار وأصبح وارتفع درجات عند الله أولًا ثم عند الناس بالعلم.
فلذلك لا بد أن نجتهد في طلب العلم وأن نأخذ العلم بالقوة، وندرس زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا بالعلم لكي العلم لا يدرس ولكي السنة لا تدرس وتذهب في المستقبل فتزداد المصائب على الأمة، لكن بنشر العلم وبتفقه العلم وأخذ الأمة بهذا العلم تقل المصائب والخلافيات والمشاكل عليهم، وتنتشر بينهم المحبة والأخوة والطمأنينة والتعاون على البر والتقوى التعاون الحقيقي، فلذلك لا بد التشييد بالعلم.
فلذلك انظر إلى قول الله في العلم والعلماء، وانظر إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في العلم والعلماء، وكذلك العلماء أنفسهم كيف يقولون، وكيف يوصون، وكيف يحترمون وكيف يوقرون العلماء وطلبة العلم، فلا بد أن نتبع هؤلاء حقيقة، أما أبكي على موت الشيخ محمد بن صالح العثيمين وأنا أخالف ما عليه الشيخ! وما عليه من الكتاب والسنة! أو أرتمي في أحضان خصوم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأدعي بحب الشيخ وأبكي عليه؛ فهذا بلا شك تناقض، وهذا خذلان وجهل، فالذي يحب الشيخ ويبكي على الشيخ لا بد أن يأخذ بمنهج الشيخ وما نشره من العلم.
ولذلك نجد هؤلاء لا يحركون ساكن في العلم، ولا ينشرون العلم ولا يطلبون العلم، ما عندهم إلا الوعظ ليلًا ونهارًا، محاضرات ودعايات كل إعلان أكبر من الآخر، لكن هل تجد عند هؤلاء تأصيل وتأسيس في العلم؟ فلا، فالشيخ أصل وأسس، فلذلك الذي يحب الشيخ ويبكي على الشيخ عليه أن يؤصل ويؤسس، فعليه أن يطلب العلم ويؤصل ويأسس كما أسس الشيخ، فالشيخ مراده هكذا وليس مراده أن نضع إعلانات ونضع أمور أخرى ليس فيها إلا جمع الناس على هذا الوعظ وأمور ليست فيها كبير فائدة، فلذلك لا بد أن نأخذ بوصية الله سبحانه وتعالى في العلم والعلماء، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ووصية العلماء.
ولذلك في هؤلاء تجدهم يحبون عالم ويبغضون عالم آخر، يحبون طالب علم ويبغضون آخر، وهذا تمايز ليس عليه لا الكتاب وعلى السنة، فالذي يحب عالم يحب جميع العلماء، يحب شيخ يحب جميع الشيوخ، يحب طالب علم يحب جميع طلبة العلم بشرط أن يكون الجميع على الكتاب وعلى السنة، أما تمايز تحب هذا وتبغض هذا فهذا ليس له أصل، فهذا ليس لك فيه إلا الخذلان.
وقبل أن نترجم لشيخنا رحمه الله تعالى نريد بذلك أمور أي: إذ نترجم لشيخنا رحمه الله تعالى نريد بذلك أمور منها: حبنا له رحمه الله تعالى حبًا صادقًا فإن حب العلماء وطلبة العلم عبادة نتقرب بها إلى الله تعالى، بلا شك أن حب العلماء وطلبة العلم عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى كما بيّن ذلك العلماء.
* وشيخنا له منزلة في قلوبنا لا يعلمها إلا الله؛ لأنه له فضل علي خاصة وعلى الأمة الإسلامية عامة، فإنه رحمه الله تعالى عندما وفقني الله في الدراسة على يديه في سنة 1404 هجرية إلى سنة 1414 هجرية، يعني أخذت العلم وجلست عند الشيخ عشر سنوات، فقضيت معه في أخذ العلم عنده عشر سنوات، فكانت هذه الأيام أيام جميلة لا تُنسى؛ لأن ما فيها من الاطمئنان والسكينة، والتعاون على البر والتقوى، والأخوة في الله الحقيقية، والقراءة والحب في الكتاب والسنة، فكانت أيامًا جميلة لا تقدر بثمن، فدرست على يديه التوحيد والعقيدة والفقه والحديث والتفسير والنحو والفرائض، وكنت ولله الحمد من المهتمين في حلقاته والمواظبين لها، لا يفوتني درسًا إلا من عذر في طوال هذه السنوات كما ذكر رحمه الله تعالى هو بنفسه في تزكيته إلي، فما رأيت فيه إلا كل خير وفضيلة.
فكان يصل أحيانًا في حلقاته معنا إلى مداعبتنا في الدرس، فكان شيخنا وأستاذنا وقدوتنا بذل قصارى جهده لإيجاد جيل مسلم يضع نصب عينيه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمنا علم الكتاب والسنة، والعلوم التي ذُكرت، ولتفريغي للعلم الشرعي كان ينفق علي في الأكل والشرب، وينفق علي في حياتي الاجتماعية العلمية عمومًا، حتى أنه رحمه الله تعالى زوجني، وأنفق على زواجي، وأثث منزلي للزواج، وكان ينفق علي، وعلى عموم طلبة العلم الموجودين في هذا العهد، وكان ينفق علي حتى الإيجار إيجار المنزل بطول هذه السنوات في كل سنة 8000 ريال، وأعظم من ذلك كان ينفق علي لشراء الكتب النافعة العلمية لأستعين بها على طلب العلم على فترات متقطعة، وبلغت مكتبتي ولله الحمد والمنة بمبلغ وقدره 150 ألف ريال ولله الحمد والمنة، عندي مكتبة كبيرة جدًا فيها الأصول والفروع، وإلى آخر هذه الخيرات التي جاءت منه من بعد الله تعالى.
فإن أناسًا حرمهم الشيخ من هذه الخيرات بعدما حرمهم الله من العلم الشرعي؛ لأنهم لجأوا إلى الدنيا والتجارة، وتركوا العلم الشرعي نعوذ بالله من الخذلان، فله الفضل والشكر من بعد الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >لا يشكر الله من لا يشكر الناس< أخرجوا الترمذي في سننه وغيره من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح، ولأن أناسًا لم يشكروا الشيخ على هذه النعم نعمة العلم والمال، بل ارتموا في أحضان خصوم الشيخ فكان أمرهم خسرًا ﴿فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، فبدت البغضاء من أفواههم علي حتى أرادوا أن يفرقوا بيني وبين شيخنا رحمه الله تعالى، فأقاموا ينشرون الأكاذيب والافتراءات علي بغضًا وحسدًا أمام الشيخ فلم يعطهم وزنًا، وعادوا خاسرين مكبكبين، فكما ترونهم ليسوا بقدوة، وفي المحرمات ساقطين نعوذ بالله من الخذلان.
فكان أول رجوعي إلى البلاد أمسك بيدي رحمه الله تعالى من جامعه إلى قرب منزله وهو بعيد جدًا عن الجامع، وهو يوصيني بالدعوة إلى الله، والتدريس، ونشر التوحيد والعقيدة، ونشر العلم حتى قال لي: وأي شيء تحتاج إليه فنحن نعين ونعاون، وهذا بنصه، وكنت أزوره في كل سنة مرة، وكان يطلق علي بالشيخ فَوزي أما البحرين يقولون فُوزي لكن الصحيح فَوزي، وكان يسألني دائمًا عن الدعوة إلى الله دائمًا، وأنا أبشره بكل خير، وأنا أذكر ذلك كي يسمع الحاقدون الحاسدون عليّ كما لا يخفى عليكم؛ لأن ينشرون هنا وهناك أن الشيخ لا يحبني وطردني، وما أشبه ذلك من الأمور التي سمعتموها في الأكاذيب، وأنا أذكر هذه الأمور وسوف يكون لي إن شاء الله كتابًا كاملًا ترجمة عن الشيخ، وسوف أذكر أمور كثيرة بيني وبين الشيخ.
فكان يقول لي: هل أنتم مجتمعون هناك على الدعوة إلى الله بقلب واحد ليس بينكم خلاف؟ وأنا أبشره وأقول له: نعم، نحن في البلاد مجتمعون على الدعوة إلى الله وعلى قلب واحد، وعلى عقيدة واحدة ومنهج واحد في جميع البلدان إلا من أراد الفرقة للأمة وللمسلمين فشتت اللٰه شمله، فكان يقول حسبنا الله ونعم الوكيل، ولله الحمد طلبة العلم والملتزمين بالكتاب والسنة مجتمعين على الكتاب وعلى السنة، وليس بيننا ولله الحمد خلاف إلا من أراد الفرقة وفي قلبه مرض فشتت الله شمله وأبعده، وهكذا.
وكنت أذكره أننا ولله الحمد مجتمعون على الكتاب وعلى السنة، وننشر العلم، ولله الحمد كثير من الناس الحمد لله يقبلون على العلم رجالًا ونساءً، وكنت أذكر له بعض الناس الذين يحبون الفرقة ويحبون التحزب، وكان يقول حسبنا الله ونعم الوكيل، وحتى أن من محبتي له هديت له كتابي: «الأضواء الأثرية في تخريج أحاديث الأربعين النووية»، وهو كتاب مطبوع وموجود وأعطيته نسخة منه، وطلب مني كمية كبيرة وأرسلت إليه تقريبًا مائتين نسخة وقام بتوزيعها في حلقته، وكذلك بعض الكتب التي أرسلت إليه قام بتوزيعها لله الحمد في حلقاته.
فلله الحمد كانت بيني وبينه رحمه الله تعالى أخوة ومحبة وألفة، لكن أهل الحقد والحسد يريدون أن يظهرون أمام الجهله وأشياعهم أن بيني وبين شيخنا أمور ليست طيبة، لكن لله الحمد خسروا أمور كثيرة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر:43]، فلذلك لا تسمع شيئًا من هؤلاء الكاذبين الحاقدين، فإنهم والعياذ بالله يفرقون بين المسلمين، ويشتتون شمل المسلمين، حتى الله سبحانه وتعالى شتت شملهم وفرق شملهم، ولله الحمد والمنة.
وهذا: كتاب: «الأضواء السماوية» الذي جعلته إهداء لشيخنا، وهنا في (ص5): هذا الكتاب إهداء إلى شيخنا وأستاذنا وقدوتنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى ورعاه ونفع به رحمه الله تعالى ورعاه ونفع به وجمع بيننا مع من أنعم عليه في جنات النعيم، إلى شيخنا الفاضل الذي بذل قصار جهده لإيجاد جيل مسلم يضع نصب عينيه كتاب الله وسنة رسوله، إلى من كان لنا خير معلم في زمن يقل فيه المخلصون، إلى شيخنا الفاضل أهدي هذا الكتاب أبو عبد الرحمن فوزي عبد الله بن محمد الأثري.
ثانيا؛ إذ نترجم لشيخنا رحمه الله تعالى الاقتداء به بعلمه ونشره، والاقتداء به بما أخذ من الكتاب والسنة، ونشر دعوته رحمه الله تعالى.
ثالثًا: أن موت أمثال شيخنا مصيبة على الأمة، فلا بد أن نجتهد في طلب العلم، ونعلم أبنائنا وبناتنا العلم، ونرقبهم فيه، وإلا في المستقبل لعل العلم يدرس والسنة تدرس فتصيب الأمة المصائب والنكبات.
رابعًا: لا بد علينا أن ننفق في سبيل الله من نشر الأشرطة الصحيحة، وطباعة الكتب الصحيحة، ودعم الحلقات العلمية، ودعم طلبة العلم والحديث لكي يكون في المستقبل نتيجة طيبة كما كان شيخنا ينفق في سبيل الله، فالشخص على قدر استطاعته عليه أن يدعم الدين، ويدافع عن الدين، وينشر العلم، إن كان صاحب علم ينشر العلم الشرعي، وإن كان طالب علم فعلى قدري ما عنده من العلم ينشر، وإن كان صاحب منهج سليم لكنه ضعيف في العلم عليه بالدعاء، ودعوة الناس إلى الحلقات الصحيحة، ولعل الشخص عامي فعليه بالدعاء ونصرة الحق بدعوة الناس إلى الحلقات كذلك، أو لعل الإنسان عنده المال فعليه أن ينفق على الأشرطة الصحيحة، وعلى الكتب الصحيحة لكي تنشر، لكي لا يُدرس العلم الصحيح، ولا تدرس السنة، ويكون الجميع في أجر.
وهذا هو أصل التعاون ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2]، فالكل يقوم بهذا الدين على قدر استطاعته لكي ينشر، وإلا إذا سكت الجميع تدب عليهم المصائب والمشاكل والهلكة، ولا بد على الأمة أن تتعلم، فإذا الأمة أعرضت عن العلم فعليك أنت أن تتعلم لكي تحفظ نفسك، وقاعدة ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك» هذا هو الأصل، فأنت احفظ العلم وتعلم، فإذا أصاب الأمة أي شيء نازلة أو هلكة أو أمور أخرى كما تعلمون، كل شخص يُبعث على نيته فتحصل الأجر أنت.
فلذلك لا بد أن ننتبه لهذا، ونحث الناس على الإنفاق في نشر العلم، وكثير من الناس يحب أن ينفق على الفقراء وعلى المساكين وعلى اليتامى وعلى أمور أخرى، ولا يحب أن ينفق على العلم ونشره لأنه ما عنده أهمية في العلم، ليس في قلبه العلم، فلذلك هؤلاء ينفق عليهم الجميع من فقراء ومساكين حتى سمنوا كذلك، لكن أين الذي ينفق على العلم؟.
فلذلك لا بد أن نحث الأغنياء خاصة والناس عامة أن ينفقون على نشر العلم الشرعي لكي لا يدرس، لكي لا تدرس السنة، وإلا إن بقينا على هؤلاء ضاعت الأمة وضاع العلم، فلا بد أن ننهض نحن أهل الحق لنشر الحق.
خامسًا: إذ نترجم لشيخنا رحمه الله تعالى نريد أن نتفرغ شيئًا لطلب العلم، ونفرغ زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا لطلب العلم، وهذا فيه خير كثير للأمة الإسلامية.
سادسًا: إذ نترجم لشيخنا رحمه الله تعالى لكي نوقر العلماء وطلبة العلم حق التوقير والاحترام، ولا نكن كالمبتدعة والحزبية الطاعنين في العلماء وطلبة العلم والمبتدعة، والحزبية أشد أكلاً للحوم العلماء وطلبة العلم، فلا تتعاون معهم في شيء لفساد منهجهم.
سابعًا: الاهتمام بالعلماء وطلبة العلم في موتهم وحياتهم، فلابد أن نهتم بالعلماء، ليس الأمر سهلًا يموت عالم ونحن لا نعطيه وزن، ولا في علمه ولا في دعوته ولا في منهجه؛ فتهلك الأمة وأنت منهم وأهلك منهم، فلا بد أن نهتم بهذا الأمر، ولله الحمد في الآونة الأخيرة وجدنا أهل الحق خاصة والمسلمون عامة يهتمون بهذا الأمر، فلنستمر على هذا لكي المبتدعة والحزبية يُضربون بهذا، وما رأينا من تشيد جنازة شيخنا والصلاة عليه ومحبة الناس له هذا يحمل أهل البدع غل في قلوبهم على هذا الأمر؛ لأنه لا يريدون للسنة نصرًا، يريدون للسنة حقدًا وبغضًا ولأهل السنة والجماعة، ويريدون النصر لهم ولمناهجهم الفاسدة، فلذلك لا بد أن نشيد العلم.
فاعلم بلا شك أن موت العالم وموت العلماء مصيبة على الأمة بلا شك، لكن لا بد أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى أغير منا على دينه، لا نقول أنه سوف يدرس العلم والدين يدرس لا، لا بد أن الله سبحانه وتعالى أن يقيض لنشر السنة ولنشر العلم، لكن من طريق هؤلاء العلماء الذين ماتوا من أهل السنة والجماعة القدماء والجدد، فنحن عندنا غيرة بلا شك على الدين، فإذا مات العالم نحزن من الذي بيقوم بالعلم، من الذي يقوم بالسنة، نقول لك: لا، الله سبحانه وتعالى أغير منك ومني على دينه، فلابد أن الله سبحانه وتعالى يقيض لنشر السنة، والعلماء لله الحمد موجودين وطلبة العلم موجودين.
ولله الحمد تخرج مؤلفات من طلبة العلم ما وجدناها عند بعض العلماء نشرًا للسنة والمنهج، وكلام واضح في الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، أمور كثيرة لله الحمد لطلبة العلم ما تكلم فيها بعض العلماء، لكنهم تكلموا فيها وخاصة على المبتدعة والجماعات الحزبية، ولله الحمد عندما رأوا العلماء أن ما قاله هؤلاء طلبة العلم هو الحق قاموا وبيّنوا في هذه الجماعات الحزبية والمبتدعة أنها شر على الأمة لا بد أن تُهجر، وهذا عندكم فتاوى وعندكم كتب وأشرطة سمعتم ذلك من العلماء.
فكذلك لطلبة العلم دور عظيم في نشر السنة، فاعلم ذلك أن الله سبحانه وتعالى أغير منا على دينه، لكن لا بد أن ننشر، ولا بد أن نتحرك، ولا بد أن نتعلم، أما محلك سر فبلا شك تدرس السنة، ويدرس العلم وينتهي، فلا نسكت ولا بد أن نبين ونوضح ذلك.
ولعل نشرع في ترجمة شيخنا رحمه الله تعالى:
الحمد لله رب العالمين وبه أستعين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين أما بعد:
فإن الله تقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان رفعهم بالعلم وزيّنهم بالحلم، بهم يعرف الحلال والحرام، والحق من الباطل والضار والنافع، والحسن من القبيح، والبدعة من السنة، والخطأ من الصواب، فضلهم عظيم ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء.
ومن هؤلاء -ولست أشك- شيخنا وأستاذنا وقدوتنا العلامة شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وجعل الجنة مثواه وجمعنا به مع من أنعم الله عليهم في جنات النعيم آمين آمين.
كان شيخنا فاضل سني سني سلفي أثري صالح قانع مجتهد أصولي متعفف، ينال من المتكلمة والمبتدعة، وكان قوالًا بالحق، داعيتنا للأثر والحديث، لا يخاف في الله لوم لائم، وحتى قال عنه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى عندما سُئل عن أهل الاجتهاد في هذا العصر فقال: (لا يحضرني من أهل الاجتهاد في هذا العصر إلا الشيخ ابن باز والشيخ ابنِ عُثَيْمِينَ)، وذلك من شريط مسجل مع أهل الحجاز.
* ولم يدخل شيخنا أبدًا في علم الكلام ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفي أثريًا قحًا، يأخذ عقيدته من المأثور عن الله جل شأنه في كتابه، والفقه بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة، فإذا وجد الدليل من الكتاب والسنة أفتى بموجبهما ولم يلتفت إلى ما خالفهما، ولمن خالفه كائنًا من كان، فقد شرحهما وحل غريبهما، وقرب ألفاظهما، وأوضح مسائلهما بالدليل وبيان ما يرجحه من مسائل الأحكام، ولم يتعصب شيخنا لرجل بعينه من أئمة الإسلام، ولم يقلد ويتعصب لمذهب من المذاهب.
قال عنه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: لم يكن فضيلة الشيخ ابن عثيمين من المقلدين، من شريط مسجل المسجلين من أهل الحجاز، بل كان قوالًا بالسنة، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا ولا رأيًا، ولا قول فلان ولا مذهب فلان، بموجب الدليل يحكم ويرجح ويناقش.
فجدد رحمه الله ما علق في الناس من تقليد وتعصب وبدع إلى القول بالدليل والبرهان من الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى تعهد بالعلماء الربانيين المجددين على فترات يقومون بتجريد المتابعة للكتاب والسنة، وشحذ النفوس للتعلق بهما والدعوة إليهما.
وقد روى أبو داوود «سُنَنِهِ»؛ بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، ونحن لا نشك في أن شيخنا أبا عبد الله الأثر السلفي هو أحد هؤلاء المجددين، لقد كان عصره رحمه الله كما هو مشاهد يمور بالفساد، والعقائد الفاسدة، وظهور الشرك، والتقليد، والتعصب الأعمى للأحزاب والمذاهب، وما رافقه من تمزق المسلمين، وضعف شوكتهم، وطمع العدو بهم.
كل هذا فرض على شيخنا أن يحمل لواء التجديد لمفاهيم الناس للدين في العقيدة والتوحيد والفقه والمنهج، فكان مجددًا في هذا العصر، تناول بالإصلاح والتجديد لهذه الأوضاع كلها، والمعاصرة أهل الفكر حملوا عليه منهم لتمسكه بالدليل، ونسبوا إليه ما لم يقل به، ولم ينظروا إلى تصانيفه، ولا فهموا كلامه، فالله المستعان:
مــا الــفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاءه
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والــجاهلون لأهــل العلم أعداء
وأعداؤه خاضعون لعلمه وفقهه، معترفون بذكائه، مقرون بسرعة فهمه، وبندري أخطائه، وخطؤه أيضًا مغفور له لاجتهاده، فموته رحمه الله تعالى حدث جلل عظيم على الأمة الإسلامية، وكأنها فقدت عضوًا من أعضائها، والله المستعان.
قال الإمام أيوب السختياني رحمه الله: (إني ل يبلغني موت الرجل من أهل السنة، فكأنما أفقد به بعض أعضائي)، أخرجه أحمد في «العلل»، وابن أبي الدنيا في «الإشراف»، وأبو نعيم في «الحلية»؛ بإسناد صحيح.
ونسأل الله أن يغفر لنا وله ولجميع المسلمين ويجمعنا وإياه في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحب